
إن دراسة تاريخ بني اسرائيل تُعد عملية معقدة ومتعددة التخصصات، تستوجب منهجاً نقدياً حذراً يوازن بين السرديات الدينية الداخلية والأدلة التاريخية والأثرية الخارجية. يمثل “بنو إسرائيل” الاسم الذي أُطلق على ذرية النبي يعقوب (الذي لقب بإسرائيل) والأمة التي انبثقت منها، وشملت مراحل عديدة تبدأ بالفترة الأبوية وتمر بالممالك وصولاً إلى المجتمعات الدينية التي تشكلت في فترة الشتات. يهدف هذا التقرير إلى تتبع تاريخ بني اسرائيل منذ الألفية الثانية قبل الميلاد (الفترة الأبوية) وصولاً إلى الانعطاف الحاسم المتمثل في تدمير الهيكل الثاني في القرن الأول الميلادي.
إن الإشكال الأكاديمي الرئيسي عند تناول تاريخ بني اسرائيل يكمن في أن معظم المصادر النصية الأساسية، لا سيما الأسفار التوراتية، قد دُوِّنت أو نُقحت في فترات لاحقة بعد وقوع الأحداث، غالباً أثناء أو بعد السبي البابلي. هذا يجعل من الضروري فحص هذه النصوص في مقابل الشواهد المادية، التي كثيراً ما تكون شحيحة أو تقدم تفسيرات مختلفة عن السرد الديني التقليدي. بناءً على ذلك، يتم التمييز بين القصص التأسيسية للهوية (مثل قصة إبراهيم وموسى) والحقائق التي تم التحقق منها خارجياً، مثل نقش تل دان ، وهو ما يعكس صعوبة توثيق تاريخ بني اسرائيل.
يتطلب المنهج النقدي المتبع في تحليل تاريخ بني اسرائيل فهماً عميقاً للمصادر الأساسية. فبينما تعتمد الدراسة بشكل كبير على العهد القديم (التوراة) لتقديم السرد الداخلي لتلك الحقبة، يجب أيضاً تسليط الضوء على الأدلة الخارجية المعاصرة. ومن أبرز تلك الأدلة النقوش المصرية القديمة، كنقش ميرنبتاح ، والسجلات البابلية والآشورية التي توفر سياقاً جغرافياً وتاريخياً يوثق وجودهم أو تفاعلهم مع القوى العظمى في الشرق الأدنى القديم. إن مقارنة هذه المصادر هي المفتاح لفك رموز تاريخ بني اسرائيل.
II. الأصول والقصص التأسيسية: تاريخ بني اسرائيل في مصر وعهد الخروج
النشأة الأبوية والعبودية في مصر
تُعتبر قصة إبراهيم، مؤسس الأمة العبرانية، وقصة حفيده يوسف، الذي انتقلت به العائلة إلى مصر، من أطول القصص القرآنية بعد قصة النبي موسى عليهما السلام. هذه الأهمية الدينية البالغة تؤكد الدور المحوري لهذه السرديات في تشكيل الهوية اليهودية والإسلامية على حد سواء. تشير المصادر إلى الوجود المبكر للعبرانيين في مصر والعبودية التي عانوها هناك. لقد مثلت هذه الأحداث التكوينية نقطة البداية لتأسيس مفهوم الأمة الموعودة، والتي سعت لاحقاً لإقامة دولة لها على الأرض المقدسة، حتى وإن كانت هذه الدول لا تصمد لأكثر من 80 عاماً في بعض محاولاتهم اللاحقة، مما ولد ما يُعرف بـ “لعنة العقد الثامن”. هذه الأحداث التأسيسية هي نقطة البداية لفهم تاريخ بني اسرائيل.
جدلية الخروج من مصر والصمت الأثري
تعتبر قصة الخروج من مصر، بقيادة النبي موسى، حجر الزاوية في العقيدة اليهودية. تتباين التقديرات الزمنية لهذا الحدث؛ فبالاعتماد على حسابات سفر القضاة (التي تشير إلى مرور 300 عام بين دخول كنعان وزمن القاضي يفتاح)، يمكن تقدير تاريخ الخروج بحوالي 1447 قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن هذا التوقيت يتزامن مع فترة الذروة في القوة العسكرية للإمبراطورية المصرية الحديثة، مما يثير إشكاليات كبيرة بخصوص إمكانية حدوث كارثة بحجم انهيار جيش فرعون والضربات العشر المذكورة في النصوص الدينية. يبرز تناقض نصي إضافي حول مبادرة الإخراج؛ فبينما يُفهم من بعض الآيات أن فرعون أراد إخراج العبرانيين، تطلب آية أخرى من موسى أن يطلب صراحة إطلاق بني إسرائيل. هذه التفسيرات المتعددة لكلمة “يستفزهم” (الإخراج أو القتل أو الاستهزاء) تبرز الإشكالية المتعلقة بالتعامل مع القصص الدينية كوقائع تاريخية أو قصص رمزية في سياق تاريخ بني اسرائيل.
أما على صعيد الأدلة المادية، فإن المؤرخين النقديين يؤكدون عدم وجود تسجيلات مصرية لهذه الكوارث الوطنية الهائلة. ويُرجع هذا الصمت ليس إلى مجرد إهمال، بل إلى تقليد مصري قديم كان يميل إلى تسجيل الانتصارات والاحتفاء بها، بينما يهمل الكوارث والإخفاقات، مثل غرق الملك وجيشه في البحر الأحمر. إن غياب الدليل الأثري المباشر لقصة الخروج لا يلغي أهميتها، بل يؤكد أن الحدث، سواء كان ضخماً كما وصف أو أصغر حجماً ، يمثل نقطة تحول هوياتية أساسية لتطور فكرة التوحيد وشرط العهد الإلهي، حيث تُقابل التضحية والابتلاء بالتمكين والنصر. هذه الجدلية تبقى محورية في دراسة تاريخ بني اسرائيل.
الانتقال إلى الأمة وعصر القضاة
بعد الخروج، مثلت فترة التيه في البرية وعهد سيناء مرحلة حاسمة من الاتكال على الله وتلقي النواميس، خاصة الوصايا العشر والقوانين المدنية والسبوت والأعياد. وعندما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان، بدأت مرحلة جديدة من الصراع من أجل تثبيت الوجود. يُعد نقش ميرنبتاح المصري (حوالي 1208 ق.م) أول دليل خارجي ومادي يذكر “إسرائيل” ككيان قبلي أو قومي موجود بالفعل في كنعان. تلت هذه المرحلة فترة القضاة (تقريباً من 1350 إلى 1050 ق.م)، والتي تميزت بالحكم القبلي اللامركزي، حيث كانت القيادة في يد القضاة (مثل تولع بن فواة). اتسمت هذه المرحلة بضعف السلطة المركزية والصراع المستمر مع الأقوام المجاورة، مما مهد الطريق لنشأة الملكية الموحدة في تاريخ بني اسرائيل.
III. المملكة الموحدة (1050 – 930 ق.م): داود، سليمان، والجدل الأثري
عظمة داود وتثبيت سلالته
تأسست المملكة الموحدة حوالي 1050 قبل الميلاد. تُوج داوود ملكاً بعد وفاة طالوت، وآتاه الله الملك والنبوة، وجعله رسولاً يحكم بالتوراة، وأنزل عليه الزبور. دام ملك داوود حوالي 40 عاماً (1010-970 ق.م). لقد أثبتت الاكتشافات الأثرية الحديثة وجود سلالته كقوة منظمة، على عكس ما يدعيه بعض الباحثين النقديين الذين يقللون من شأنه إلى مجرد زعيم قبلي محلي. الدليل القاطع على وجود “بيت داوود” كسلالة حاكمة يأتي من نقش تل دان الآرامي الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، بالإضافة إلى إشارات في نقش ميشع المؤابي، حيث يظهر اسم داود كـ “مؤسس سلالة يهوذا”. كما يدعم موقع خربة قيافا وجود مدينة محصنة ومركز إداري حضري في وادي إيلة خلال القرن العاشر ق.م، مما يؤكد وجود مملكة داوود المركزية في هذه الفترة من تاريخ بني اسرائيل.
عهد سليمان وجدلية الهيكل الأول
بعد داود، تولى ابنه سليمان الحكم حوالي 970 ق.م. وقد آتاه الله الحكمة والفطنة وسخر له الجن والإنس والطير، وحكم بني إسرائيل 40 سنة حتى وفاته حوالي 931 ق.م. كانت الفترة السليمانية تُعرف في السرد الديني بإنشاء الهيكل الأول في أورشليم (القدس)، وهو مبنى ذو عظمة استثنائية. على الرغم من الشهرة الواسعة لهذا الموضوع، هناك خلافات أثرية حادة حول تاريخانية الهيكل. فقد شكك العديد من علماء الآثار والمؤرخين، مثل توماس طومسون وفراس السواح، في إمكانية بناء الهيكل بالعظمة الموصوفة في سفر الملوك الأول في القرن العاشر قبل الميلاد. هذا الشك يرجع إلى أن أورشليم في ذلك الوقت كانت مجرد قرية أو مدينة صغيرة لا تملك الموارد الكافية لإقامة مشروع معماري ضخم ومترف كهذا.
هذا التناقض بين السرد النصي والواقع الأثري دفع بعض الباحثين اليهود، مثل عالم الآثار الإسرائيلي زيف هيرتزوغ، إلى القول بأن قصة هيكل سليمان قد تكون “أحلام يقظة يهودية” أو قصة ثقافية صُنعت أو نُقحت في فترة لاحقة. هذا يرجح أن القصص المتعلقة بالهيكل ربما تكون قد صيغت لتأكيد قدسية القدس ومركزية العبادة بعد ضياعها نتيجة السبي البابلي، مما يجعلها أداة لاهوتية وسياسية أكثر من كونها سجلاً تاريخياً دقيقاً. إن الجدل حول الهيكل يعد نقطة خلافية حاسمة في فهم تاريخ بني اسرائيل.
التنظيم الديني والكهنوتي
بالتوازي مع التطور السياسي، شهدت هذه الحقبة تأسيس النظام الكهنوتي، حيث تم تعيين الكهنة جميعهم من سبط لاوي، وتولى رئيس الكهنة (من سلالة هارون) المسؤولية عن جميع الخدمات المقدسة، وأهمها طقس الكفارة السنوي. هذا النظام كان يشمل رئيس الكهنة (الكاهن الأول) والكهنة الصغار وطائفة الأخصائيين، وقد أُطلق على مملكة إسرائيل اسم “مملكة الكهنوت”. ويُلاحظ وجود تشابه بين التنظيم الكهنوتي اليهودي والتنظيم الكهنوتي المصري القديم، مما يشير إلى احتمال وجود تأثير ثقافي متبادل على تاريخ بني اسرائيل المبكر.
IV. الانقسام والسقوط: تاريخ بني اسرائيل تحت القوى العظمى (930 – 539 ق.م)
الانقسام إلى مملكتين
بعد وفاة سليمان حوالي 930 ق.م، انقسمت المملكة الموحدة إلى كيانين منفصلين: مملكة إسرائيل (الشمالية) ومملكة يهوذا (الجنوبية) وعاصمتها القدس. هذا الانقسام لم يكن مجرد صراعاً سياسياً، بل كان له شرعية دينية، حيث كان يُنظر إلى مملكة يهوذا على أنها المملكة الشرعية والأكثر اهتماماً في سجلات سفر الملوك والأخبار، لكونها تحمل نسل داود. هذا التركيز ساهم في ترسيخ فكرة القدس كمركز روحي دائم للهوية اليهودية في تاريخ بني اسرائيل.
السقوط الآشوري والسبي البابلي
شهدت المملكتان تهديداً مستمراً من القوى العظمى المجاورة. سقطت مملكة إسرائيل الشمالية أولاً على يد الآشوريين (722 ق.م)، وهو ما أدى إلى تشتت ما يعرف بـ “القبائل العشر المفقودة”. بقيت مملكة يهوذا صامدة لفترة أطول قبل أن تتعرض للغزو البابلي. وفي عام 586 ق.م، قام البابليون بقيادة نبوخذ نصر بتدمير القدس وتدمير الهيكل الأول، واقتلاع النخبة ونفيهم إلى بابل. على الرغم من أن بابل كانت مدينة حصينة وقوة عسكرية عظيمة، إلا أنها سقطت فجأة بيد كورش ملك فارس عام 539 ق.م. تشير التحليلات إلى أن هذا الانهيار لم يكن نتيجة الغزو الخارجي المحض، بل كان نتاج تراكمات أضعفت البنية الداخلية لبابل، مثل الصراع على السلطة بين السلالة الحاكمة ومؤسسات المعبد القوية اقتصادياً. هذه التطورات الخارجية شكلت الفصول اللاحقة من تاريخ بني اسرائيل.
السبي البابلي ونشوء الهوية النصية
الأهم من ذلك، أن السبي البابلي لم يكن مجرد كارثة، بل أصبح بوتقة صقلت الهوية اليهودية. خلال هذه الفترة، تعرضت الجماعة المنفية لتأثيرات ثقافية عميقة. يذهب المختصون إلى أن الأحبار اليهود في بابل قاموا باقتباس قصص وأساطير من بلاد ما بين النهرين ونسبوها إلى تاريخهم لربط أنفسهم بالحضارات القديمة. لقد أدى السبي إلى تدوين الأسفار وتطور مفهوم الهوية القائمة على النص والشريعة بدلاً من الهوية القائمة على الأرض والهيكل. هذا التحول كان حاسماً في تاريخ بني اسرائيل لاستمرارية وجودهم الديني بعد ضياع المركز السياسي.
V. عصر الهيكل الثاني والهلينة: الصراع من أجل الهوية (539 ق.م – 63 ق.م)
الإحياء الفارسي وإعادة بناء الهيكل الثاني
بعد سقوط بابل، أصدر الملك كورش مرسوماً في عام 538 ق.م سمح فيه لليهود بالرجوع إلى أورشليم وأمر بإعادة بناء الهيكل، بل وأعاد إليهم كنوزه. كان هذا الإحياء تحت رعاية قوة عظمى هو الانعطاف الجديد في تاريخ بني اسرائيل. بدأ الحاكم اليهودي التابع لكورش ببناء الهيكل الثاني، ورغم أن الأقوام المجاورة اشتكت إلى قمبيز وأوقفت البناء مؤقتاً، إلا أنه استكمل تحت حكم داريوش الأول عام 515 ق.م. استمرت السيطرة الفارسية على اليهود من 539 ق.م حتى 331 ق.م.
السيطرة اليونانية وتحدي الهلينة
في عام 331 ق.م، دخل اليهود تحت السيطرة اليونانية بعد زحف الإسكندر المقدوني على المنطقة. لاحقاً، تنازع البطالسة (مصر) والسلوقيون (سوريا) على القدس. أدى حكم السلوقيين إلى ذروة الصدام الثقافي المعروف باسم “الهلينة”، خاصة عندما قام أنطيوخوس الرابع السلوقي (175-163 ق.م) بنهب الهيكل وتنصيب تمثال للإله زيوس فيه، وهو ما أدى إلى صراع وجودي في تاريخ بني اسرائيل بين المخلصين للتقاليد والمتبنين للثقافة اليونانية.
ثورة المكابيين والدولة الحشمونية
كان الرد على هذا التدنيس الثقافي والديني هو اندلاع التمرد المكابي في عام 167 ق.م. قاد متتيا الكاهن ويهوذا المكابي هذا التمرد، الذي كان يهدف إلى استعادة الاستقلال الديني والسياسي. هذا الصدام لم يكن مجرد صراع عسكري، بل أدى إلى “التشديد” على الهوية الدينية كوسيلة للمقاومة. نجح المكابيون في تأسيس السلالة الحشمونية، التي حكمت بشكل مستقل من 140 ق.م حتى 37 ق.م. مثلت هذه الدولة اليهودية المستقلة الأخيرة مرحلة هامة في تاريخ بني اسرائيل. إن الخطابات السياسية الحديثة ما زالت تستلهم رموز المكابيين كدليل على المقاومة العنيفة والقومية.
للإطلاع على تاريخ الماسونية السري
VI. الحقبة الرومانية والشتات الأعظم: نهاية الحكم الذاتي (63 ق.م – 70 م)
تحت الولاية الرومانية وصعود المسيحية
بدأ الحكم الروماني في يهودا عام 63 ق.م، وسمح لهم الملك الروماني بحكم بعض المناطق تحت ولايته. خلال هذه الفترة المضطربة، شهد تاريخ بني اسرائيل ولادة النبي عيسى عليه السلام في بيت لحم. تشير السرديات الدينية إلى أن بني إسرائيل هم من اتهموا السيدة مريم وحرضوا الملك الروماني على مقاتلة عيسى عليه السلام، مما جعل المسيحيين مضطهدين في المنطقة. هذا التوتر بين اليهود والسلطة الرومانية والديانات الناشئة ضاعف من حالة الاضطراب الداخلي.
الثورة الكبرى وتدمير الهيكل الثاني
تصاعدت المقاومة ضد الحكم الروماني، وبلغت ذروتها في الثورة اليهودية الكبرى. كانت النتيجة هي حصار القدس وتدمير الهيكل الثاني على يد القائد الروماني تيتوس (من فبراير حتى 8 سبتمبر عام 70 ميلادية). يتفق اليهود على أن الهيكل الثاني دُمر في اليوم التاسع من شهر آب (آف) العبري عام 70 م، في نفس التاريخ الذي دمر فيه الهيكل الأول على يد البابليين عام 586 ق.م. يرى المسيحيون الأوائل في تدمير الهيكل تحقيقاً لنبوءات يسوع ، مما أدى إلى تفسيرات لاهوتية حول اكتمال النبوءات القديمة، وأثر على العلاقة بين المسيحية واليهودية.
الشتات والتحول الحاخامي
كانت نتائج تدمير الهيكل الثاني كارثية، إذ لم يكن الهيكل مجرد مركز ديني للعبادة والسياسة. أدى تدميره إلى نهاية النظام الكهنوتي بالصيغة القديمة وبدء الشتات الأعظم (الدياسبورا). وفي مواجهة هذا التدمير، انتقلت السلطة الدينية من الكهنة إلى الحاخامات. بدأت الحقبة الحاخامية، متمركزة حول مدارس دينية مثل يفنة ، حيث أصبحت الهوية اليهودية تُحفظ وتُصان من خلال التركيز على النص والشريعة بدلاً من الطقوس المعتمدة على المذبح. كما تم طرد اليهود من القدس ومنعهم من دخولها لقرون في عهد الإمبراطور هادريان. هذا التحول من “عبادة المعبد” إلى “عبادة النص” كان مفتاح بقاء تاريخ بني اسرائيل واستمراريته في الشتات.
VII. استمرارية الهوية في الشتات ونظرة مقارنة
النجاة في الدياسبورا والازدهار تحت الحكم الإسلامي
بعد الشتات الأعظم، كان التحول الأهم في تاريخ بني اسرائيل هو إعادة تعريف وجودهم؛ حيث أصبح النص الديني (التوراة والتلمود) هو الوطن المتنقل الذي يحفظ الجماعة. ومن المهم ملاحظة الفروقات في معاملة اليهود في العصور اللاحقة. فخلافاً للاضطهاد الروماني والبيزنطي، سمح الخليفة عمر بن الخطاب لليهود بالعودة إلى القدس لأول مرة منذ 500 عام (في عام 15 هجرية / 637 م). لم يسع الإسلام إلى إبادة اليهود أو طردهم جماعياً بسبب دينهم، بل عاش اليهود في بيئة علمية وحضارية مزدهرة في العصر العباسي والأندلسي، وهو ازدهار لم يعرفوه في أوروبا التي كانت تطهدهم. هذا التسامح سمح بنشوء مراكز يهودية فكرية كبرى (سفارديم وأشكناز) ، مما أكد استمرارية تاريخ بني اسرائيل بعيداً عن المركز الجغرافي.
ربط التاريخ القديم بالصهيونية الحديثة
إن الفصول اللاحقة من تاريخ بني اسرائيل تضمنت دور المحرقة النازية في دفع يهود العالم نحو تأييد الصهيونية. وقد أدركت الحركة الصهيونية العلمانية، منذ بدايات التخطيط لتأسيس وطن في فلسطين، أن تحقيق “العودة الموعودة” يتطلب جهداً يهودياً صرفاً يُستمد شرعيته من الدعم الإلهي. لذلك، نجد استمرار استلهام الرموز التاريخية للمقاومة، مثل المكابيين، في الخطاب السياسي المعاصر، كما يفعل نتنياهو. إن هذا الربط بين الحركات القومية الحديثة والأساطير القديمة يوضح كيف يتم توظيف تاريخ بني اسرائيل لتشكيل الواقع المعاصر.
للإطلاع على خرافة اسرائيل الكبرى
خلاصة نقدية لتحديات تاريخ بني اسرائيل
يتضح من خلال هذا الاستعراض أن قراءة تاريخ بني اسرائيل تتطلب مراجعة نقدية مستمرة للنصوص الدينية في ضوء الأدلة الأثرية المتجددة. إن هذا التاريخ هو بالدرجة الأولى قصة بقاء ديني وإعادة تعريف للهوية في مواجهة الانهيار السياسي والتشتت الجغرافي، بدلاً من كونه مجرد سجل لملوك وأراضٍ. إن هذا التعقيد المنهجي هو ما يميز القراءة المتعمقة لـ تاريخ بني اسرائيل.
Table Title: مقارنة بين السرديات الدينية والتفسيرات النقدية في تاريخ بني اسرائيل
السردية المحورية | المقاربة الدينية/النصية | المقاربة الأثرية/النقدية | تأثيرها على تاريخ بني اسرائيل |
---|---|---|---|
الخروج من مصر | حدث إلهي لإنقاذ الأمة، يشكل حجر الزاوية للعقيدة والناموس. | وثائق مصرية صامتة، قد يكون الحدث رمزياً أو أصغر حجماً. | تأسيس مفهوم العهد الإلهي وتثبيت التوحيد كشرط للبقاء. |
المملكة الداوودية | إمبراطورية ضخمة وعاصمة مركزية (أورشليم)، وبناء الهيكل العظيم. | إثبات وجود سلالة حاكمة (بيت داوود)، لكن حجم الإمبراطورية والهيكل قد يكون مثالياً (مثالية في السرد). | تثبيت فكرة “الملك المنتظر” (المسيا) ومكانة القدس الأبدية. |
السبي البابلي | عقاب إلهي لعدم الطاعة، يتبعه خلاص وعودة. | انهيار سياسي ناتج عن صراعات القوى العظمى، سقوط بابل بسبب ضعف داخلي. | صقل التوحيد، وتدوين الأسفار، وتطور المؤسسة الحاخامية، والتأثر بالثقافة البابلية. |
تدمير الهيكل الثاني (70 م) | نهاية مؤقتة للعبادة، نبوءة تحققت. | نهاية النظام الكهنوتي، نشوء الحقبة الحاخامية. | تحول اليهودية من دين مركزي قائم على التضحية إلى دين دياسبوري قائم على النص والشريعة، مما ضمن استمرارية تاريخ بني اسرائيل. |
VIII. خاتمة واستنتاجات معمقة
لقد أظهر استعراض تاريخ بني اسرائيل أنه تاريخ يتميز بالديناميكية العالية والتفاعل المستمر مع القوى العظمى المحيطة، حيث شكلت كل كارثة سياسية منعطفاً في التطور الديني والاجتماعي. فبينما كانت الممالك الموحدة والمنقسمة (1050 – 586 ق.م) تسعى لتثبيت وجود سياسي مبني على الأرض والملك ، أدت هزائم السبي البابلي وتدمير الهيكل الأول إلى تحول محوري، حيث تحول التركيز من المركزية الجغرافية إلى النص الديني. هذا التحول سمح بمرونة الهوية اليهودية وتمكينها من البقاء كجماعة دينية متماسكة حتى في غياب الدولة، وهو ما ضمن استمرارية تاريخ بني اسرائيل.
في الختام، يُمكن القول إن الشتات الأعظم الذي بدأ بعد عام 70 م لم يمثل نهاية، بل كان بمثابة إعادة تأسيس. فمن خلال مؤسسة الحاخامات التي حلت محل الكهنوت ، ومن خلال الازدهار الذي توفر لليهود تحت الحضارات الإسلامية لاحقاً ، استمر تاريخ بني اسرائيل في التطور بعيداً عن مركزه القديم. هذا الإرث الطويل والمعقد، المتشابك بين الواقع الأثري والسرد الديني، يظل موضوعاً خصباً للبحث والتدقيق، ويتطلب دوماً التمييز بين المطالبة التاريخية والتوظيف السياسي اللاحق. إن هذا التعقيد المنهجي هو ما يميز القراءة المتعمقة لـ تاريخ بني اسرائيل.
Works cited
- علم الاثار يؤكد ان كثير من ملوك وقادة مملكة يهوذا الذين ذكرهم الكتاب المقدس حقيقيين ويؤكد دقته التاريخية, https://www.drghaly.com/articles/display/13726 2. الملك مرنبتاح و علاقتة ببنى اسرائيل و لوحة انتصارة و انجازاته التاريخية – YouTube, https://www.youtube.com/watch?v=M3vxDqji7mM 3. قصة إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم ودورها في تحقيق مقاصده – إسلام أون لاين, https://islamonline.net/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF%D9%87/ 4. ج: إن سفر الخروج عميق ويمكن أن يُفهم ويدرس على عدة مستويات مختلفة. – Muslim Hope, https://www.muslimhope.com/Arabic/BibleAnswers_Arabic/ExodusQA_Arabic.html 5. تاريخ بني إسرائيل حتى ظهور الصهاينة ونشأة إسرائيل – وجيز, https://wajeez.com/blog/Wajeez/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A8%D9%86%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%B8%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D8%A7%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D9%88%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84 6. رحلة الخروج وزمن الخروج وطريق الخروج والرد علي بعض شبهات الخروج ومقارنه بالفكر الاسلامي عن الخروج – Dr Ghaly, https://www.drghaly.com/articles/display/10584 7. لماذا صمتت الآثار المصرية عن ذكر قصة الخروج؟ – كتاب مدارس النقد والتشكيك والرد عليها | St-Takla.org, https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/568.html 8. خروج بني إسرائيل من مصر: قراءة في النصوص المقدسة ووثائق التاريخ | منشور, https://manshoor.com/society/history-israel-exodus-from-egypt/ 9. مقدمة في سفر القضاة ” Judges | St-Takla.org – القس أنطونيوس فهمي, https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Introductions-Elkalima-Arabic-Bible-Fr-A-F/Mokademat-ArabicBible-01-Old-Testament/Scripture-Bible-Study-OT-07-Book-of-Koda.html 10. مملكة إسرائيل الموحدة – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9_%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9 11. أدلة جديدة على قيام مملكة داود عرضت في مؤتمر دولي لدراسة الشرق الأدنى القديم عقد في جامعة حيفا, https://al-aleem.science/evidence-for-the-existance-of-david-kingdom-0705104 12. هيكل سليمان – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84_%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86 13. هيكل سليمان: قصة المبنى المقدس الذي أثار الجدل عبر العصور – مؤسسة الدراسات العلمية | Institute of Scientific Studies, https://iss-foundation.com/home/eventsdet/NDUz 14. الكهنوت في اليهودية والمسيحية و الاسلام, https://www.drghaly.com/articles/display/10439 15. هل ترجع طقوس سفر اللاويين إلى ما بعد عصر موسى النبي؟ – كتاب مدارس النقد والتشكيك والرد عليها | St-Takla.org, https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/718.html 16. مملكة يهوذا – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9_%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%B0%D8%A7 17. تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا القديمتين – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE_%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%AA%D9%8A_%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84_%D9%88%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%B0%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85%D8%AA%D9%8A%D9%86 18. تاريخ مملكة إسرائيل ويهوذا في الكتاب المقدس #shorts – YouTube, https://www.youtube.com/shorts/GXQf9beUOPg 19. “ذكرى خراب الهيكل”.. مناسبة سنوية يقتحم فيها اليهود المتطرفون المسجد الأقصى – الجزيرة نت, https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/8/13/%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D8%B3%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D9%82%D8%AA%D8%AD%D9%85 20. اسباب سقوط بابل, https://almerja.com/reading.php?idm=65723 21. النفي البابلي وأثره في الفكر الديني اليهودي – ASJP, https://asjp.cerist.dz/en/article/65463 22. عهد السيطرة الفارسية: – erfan.ir, https://erfan.ir/arabic/7829.html 23. هيكل سليمان.. البحث عن السراب | الموسوعة – الجزيرة نت, https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2001/7/29/%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A8 24. مكابيون – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%86 25. السلالة الحشمونية – ويكيبيديا, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B4%D9%85%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9 26. يعود تاريخهم إلى القرن الثاني قبل الميلاد.. من هم المكابيون الذين يستلهمهم نتنياهو في خطاباته؟, https://arabicpost.net/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/2023/12/09/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%86/ 27. المكابيون.. قصة مقاتلين يهود يستلهمهم نتنياهو في خطاباته | الموسوعة – الجزيرة نت, https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2023/12/8/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%84%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%84%D9%87%D9%85%D9%87%D9%85 28. ما هي النبوءات الكتابية التي تحققت في عام 70 بعد الميلاد؟ – Got Questions, https://www.gotquestions.org/Arabic/Arabic-AD-70.html 29. تنبؤات يسوع عن خراب الهيكل وتحذيراته (لوقا 21: 5-19) – Liturgical Office – المكتب الليتورجي, https://liturgicaloffice.org/sermon/%D8%AA%D9%86%D8%A8%D8%A4%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D8%B3%D9%88%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D9%83%D9%84-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D8%B0%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D9%84/ 30. 2. المسألة اليهودية ونشأة الصهيونية – بوابة الاشتراكي, https://revsoc.me/publications/20757/2-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9/ 31. الحاخامات في إسرائيل – مركز المعلومات الوطني الفلسطيني, https://info.wafa.ps/pages/details/31993 32. الحاخامات.. صانعو المُلك في “إسرائيل” – نون بوست, https://www.noonpost.com/46045/ 33. تاريخ اذلال شعب الله المختار ( اليهود ) من السبي البابلي إلى تدمير الهيكل وسحقهم على يد الرومان, https://www.youtube.com/watch?v=48CYFb5zktE