
تقدم الوثائق المصدرية رؤيتين متكاملتين ومتناقضتين في آن واحد لشخصية الرئيس العراقي السابق صدام حسين. المنظور الأول، وهو ملف تعريف نفسي سياسي، يصوره كقائد براغماتي، حاسب، وعديم الرحمة، مدفوعًا بطموح “مسياني” ورؤية عالمية مصابة بجنون العظمة، وليس كـ”مجنون” غير عقلاني. دافعه الأساسي هو البقاء في السلطة مع الحفاظ على كرامته. أما المنظور الثاني، المستمد من مقابلات مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بعد أسره، فيكشف عن رواية صدام حسين الشخصية. يقدم نفسه كخادم للشعب العراقي، وضحية للمؤامرات الأجنبية (الأمريكية، الصهيونية، الإيرانية)، ومدافع عن القومية العربية. ينفي باستمرار ارتكاب أي مخالفات، ويتجنب تحمل مسؤولية الفظائع، ويرفض الاعتراف بأي أخطاء لـ”عدوه”.
من بين الموضوعات الرئيسية المتكررة في مقابلاته: إلقاء اللوم على القوى الأجنبية في مصائب العراق، وتبرير الأعمال العدائية كضرورات دفاعية، ورفض الإجابة على الأسئلة التي قد تضر بـ”شعبه أو جيشه أو أصدقائه”. الأهم من ذلك، أنه يصرح بوضوح أن رفضه لعودة مفتشي الأمم المتحدة لم يكن لإخفاء أسلحة دمار شامل (التي زعم أن العراق لم يعد يمتلكها)، بل كان مدفوعًا بالخوف من كشف نقاط ضعف العراق أمام إيران، التي اعتبرها التهديد الأكبر. تكشف الوثائق عن رجل يدرك تمامًا أهمية التاريخ، ويسعى بجد لصياغة إرثه حتى وهو في الأسر.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: ليس “مجنونًا” بل “حاسب سياسي بارع”
يقدم ملف التعريف، الذي تم إعداده قبل أسره، إطارًا لفهم سلوك صدام حسين، مؤكدًا أنه قائد يمكن التنبؤ بتصرفاته إذا تم فهم دوافعه الأساسية.
يصف التحليل صدام حسين بأنه “حاسب سياسي حكيم” وليس “مجنون الشرق الأوسط”. هذا التشخيص يؤكد أنه ليس مندفعًا، بل يتصرف بعد دراسة متأنية ويمكن أن يكون صبورًا للغاية. ومع ذلك، فإن هذه العقلانية لا تقلل من خطورته البالغة. تم تشخيص حالته بأنها “نرجسية خبيثة”، وهي تركيبة شخصية تجمع بين:
- طموح مسياني لسلطة غير محدودة.
- انعدام الضمير.
- عدوانية غير مقيدة.
- نظرة مصابة بجنون العظمة.
هذه السمات تجعله خطيرًا للغاية، حيث أنه قادر على تبرير أقصى درجات العنف، بما في ذلك استخدام أسلحة الدمار الشامل، إذا رأى ذلك ضروريًا لتحقيق أهدافه.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: الدوافع والجذور الأيديولوجية
تشكلت رؤية صدام حسين للعالم بشكل كبير من قبل خاله، خير الله طلفاح، الذي زرع فيه كراهية الأجانب والإيمان بأيديولوجية حزب البعث القومية. امتلأ عقل صدام الشاب بقصص البطولة في خدمة الأمة العربية، وكان يرى نفسه امتدادًا لشخصيات تاريخية مثل نبوخذ نصر وصلاح الدين الأيوبي. أصبح جمال عبد الناصر نموذجًا له، حيث تعلم منه أن “القومية العربية لا يمكن تحريرها من الأغلال الغربية إلا من خلال المواجهة الجريئة للقوى الإمبريالية”. دافعه الأساسي هو خدمة طموحاته الشخصية، والتي يتم تبريرها أيديولوجيًا تحت شعار “استثنائية الاحتياجات الثورية”. في عقله، مصير صدام ومصير العراق شيء واحد لا ينفصل.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: البراغماتية والبقاء
على الرغم من أحلامه المجدية، يظهر التحليل أن صدام حسين براغماتي وقادر على تغيير مساره إذا ثبت أن إجراءً معينًا يأتي بنتائج عكسية. ومع ذلك، فإن هذا التراجع ليس اعترافًا بالخطأ، بل هو تكيّف مرن مع وضع متغير. دافعه نحو السلطة لا يتضاءل بسبب هذه الانتكاسات، بل ينحرف مؤقتًا فقط. أولويته القصوى هي البقاء في السلطة مع الحفاظ على كرامته وشرفه، وهو مفهوم يفسر في سياق عربي. يرفض التحليل فكرة أنه يعاني من “عقدة مسادا” (تفضيل الموت على الاستسلام)، مؤكدًا أنه “لا يرغب في أن يكون شهيدًا، والبقاء هو أولويته الأولى”.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: نقاط الضعف وسوء التقدير
كانت رؤية صدام للعالم “ضيقة ومشوهة”، مع خبرة محدودة خارج العالم العربي. وكان محاطًا بالمتملقين الذين يخشون معارضته بسبب سمعته الراسخة في الوحشية، مما حرمه من مشورة حكيمة. هذا المزيج من المنظور الدولي المحدود ودائرة القيادة المتملقة أدى به إلى سوء تقدير سياسي في الماضي، مثل دهشته من الإدانة شبه الإجماعية لغزوه للكويت.تقدم المقابلات التي أجريت بعد أسره رؤية مباشرة لروايته الشخصية للأحداث التاريخية الرئيسية، حيث يصور نفسه باستمرار كشخصية تتفاعل مع التهديدات الخارجية وتدافع عن سيادة العراق.
الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)
- تبريره: يلقي صدام حسين باللوم الكامل على إيران في بدء الحرب، مشيرًا إلى “540 اعتداء” إيرانيًا على العراق وانتهاكات “اتفاقية الجزائر لعام 1975”. يصف آية الله الخميني بأنه “متعصب ديني” لديه “عقدة” تجاه العراق.
- هدفه: كان الهدف هو “منع إيران من التدخل في شؤوننا الداخلية”.
- الأسلحة الكيميائية: يرفض الإجابة بشكل مباشر على أسئلة حول استخدام العراق للأسلحة الكيميائية، قائلاً: “لن أُحشر في زاوية أو أُوقع في فخ فني”. ومع ذلك، يدعي أن إيران استخدمت الأسلحة الكيميائية أولاً.
- قناعته: يؤكد أنه “لم يعتقد لثانية واحدة” أن العراق سيخسر الحرب.
للإطلاع على ملخص لفلسفة حنة أرندت
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين
غزو الكويت (1990-1991)
- تبريره: يصف الغزو بأنه عمل دفاعي وقائي (“الدفاع بالهجوم”) ضد “مؤامرة” أمريكية-كويتية تهدف إلى تدمير الاقتصاد العراقي من خلال خفض أسعار النفط والحفر المائل.
- الادعاءات التاريخية: يؤكد أن الكويت تاريخيًا جزء من العراق، وأنها “سُرقت” بقرار بريطاني.
- روايته للأحداث: ينفي ارتكاب فظائع من قبل القوات العراقية، ويدعي عدم علمه بإشعال آبار النفط. يعترف بأنه هو من أمر شخصيًا بهجمات صواريخ سكود على إسرائيل لمعاقبة “مصدر كل المشاكل”.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: انتفاضات 1991
- روايته: يرفض وصف الأحداث بأنها انتفاضة شعبية. بدلاً من ذلك، يصفها بأنها أعمال تخريبية قام بها “خارجون عن القانون ولصوص” وعملاء “دفعتهم إيران”.
- مسؤوليته: يعترف بأنه أصدر أوامر للجيش بـ”مواجهة الخيانة”، لكنه ينفي علمه بالأساليب المحددة المستخدمة لقمع الانتفاضات. يرفض فيلمًا وثائقيًا يظهر الفظائع باعتباره “فيلمًا دعائيًا” متحيزًا.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: أسلحة الدمار الشامل وعمليات التفتيش الدولية
- ادعاءاته الرئيسية: يؤكد أن العراق لم يعد يمتلك أسلحة دمار شامل وأن عمليات تفتيش الأمم المتحدة “حققت أهدافها”. ويدعي أنه بحلول عام 1998، كان العراق قد امتثل لقرارات الأمم المتحدة.
- مبرر عدم التعاون: يوضح أن السبب الرئيسي لرفضه عودة المفتشين لم يكن إخفاء أسلحة، بل كان “الخوف من أن تكتشف إيران نقاط ضعف العراق ونقاطه الحساسة”. لقد كان يرى أن كشف هذه الأسرار لإيران يمثل تهديدًا أكبر من ضربة أمريكية.
- رؤيته المستقبلية: يكشف أنه لو تم رفع العقوبات، لكان العراق “سعى إلى اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة” لحمايته من التهديدات الإقليمية، وخاصة إيران.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: العلاقة مع تنظيم القاعدة
- موقفه الأيديولوجي: ينفي أي تقارب أيديولوجي مع أسامة بن لادن، مشيرًا إلى أن “الدين والحكومة لا يجب أن يختلطا”.
- الاتصالات: يعترف بحدوث اجتماعات بين مسؤولين عراقيين (مثل فاروق حجازي) وبن لادن، لكنه ينفي وجود أي تعاون.
- هجمات 11 سبتمبر: يدعي أنه استنكر الهجمات في مقالات افتتاحية لكنه لم يستطع إصدار إعلان رسمي لأن العراق يعتبر نفسه “في حالة حرب مع الولايات المتحدة”.
للإطلاع على ملخص لفلسفة كارل ماركس
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين
تكشف المقابلات عن فلسفة صدام حسين في الحكم وتقييمه لمن حوله.
الإنجازات والموروثات
- منظوره الشخصي: يعتبر أعظم إنجازاته هي البرامج الاجتماعية وتحسين قطاعات الاقتصاد والصحة والتعليم، التي نقلت العراق من حالة “بدائية” في عام 1968.
- إرثه: يعتقد أن الناس “سيحبونه أكثر بعد وفاته”. الأهم بالنسبة له ليس ما يفكر فيه الناس الآن، “بل ما يفكر فيه الله”.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: التعامل مع الخصوم والمعارضين
- النمط: تظهر المصادر نمطًا ثابتًا من إزالة التهديدات المتصورة، بدءًا من خصومه الأوائل مثل عبد الرزاق النايف، وصولًا إلى المتآمرين المزعومين في عام 1979.
- تبريره: يبرر أفعاله بأنها ضرورية لـ”احتياجات الثورة”، معتبراً أن “الالتزامات والولاء هي مسألة ظروف، والظروف تتغير”.
- الاغتيالات في الخارج: عند سؤاله عن مقتل النايف في لندن، أجاب: “الله قتل النايف”.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين: تقييمه للمسؤولين المقربين
خلال المحادثات غير الرسمية، قدم صدام حسين تقييمات صريحة لبعض أقرب مساعديه:
- طارق عزيز: ذكي جدًا، والأكثر معرفة بالغرب بين مسؤولي حزب البعث. متحدث ممتاز.
- علي حسن المجيد: يفكر كـ”عربي” أو “بدوي”. خبرته محدودة، لكنه يتبع الأوامر وينفذ واجباته.
- طه ياسين رمضان: شخصيته منفتحة، ويتحدث باستمرار عن نفسه.
- برزان إبراهيم الحسن: ذكي جدًا، لكن شخصيته مغلقة.
- وطبان إبراهيم الحسن: ودود لكنه بسيط، غير قادر على التعامل مع المناصب أو القضايا السياسية.
- عبد حميد محمود: موظف جيد ومخلص، ينفذ واجباته وأوامره بشكل جيد.
رؤى وتحليلات من ملف صدام حسين
يقدم تقرير مرحلي لمكتب التحقيقات الفيدرالي نظرة على ديناميكيات المقابلات.
- الاستراتيجية: تركزت الاستراتيجية على بناء علاقة وثقة بين صدام والمحقق الرئيسي (SSA George Piro) للسماح بإدخال مواضيع أكثر تعقيدًا وحساسية.
- الهدف: كان الهدف هو “إغراق حسين بحجم الأدلة ضده وضد الآخرين” فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والقتل الجماعي، على أمل أن يقرر إلقاء اللوم على قادة النظام السابقين.
- ملاحظات: لوحظ أن صدام يصبح “مضطربًا بشكل واضح” عند مواجهته بأدلة (مثل الفيلم الوثائقي حول انتفاضات 1991) لكنه يستعيد هدوءه لاحقًا. يعتقد فريق مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه “من غير المرجح أن يقدم أي شيء ذي قيمة دون الحصول على فائدة ملموسة في المقابل”.
المصادر: