
قبل انطلاق رحلة داروين على سفينة البيغل، كان الفكر العلمي والديني في أوائل القرن التاسع عشر مهيمناً بنموذج فكري يعتبر العالم الطبيعي ثابتاً ومصمماً بإتقان إلهي. كانت النظرية السائدة، المعروفة باسم “الخلق الخاص” (special creationism)، تفترض أن كل نوع حي قد خُلق بشكل مستقل وثابت، ومصمم خصيصاً لبيئته، وأنه لا يتغير بمرور الزمن.1 وقد توافقت هذه الرؤية العلمية بشكل كبير مع التفسير الحرفي لسفر التكوين، الذي يصف خلق الكائنات الحية “كأجناسها” دون الإشارة إلى أي تغيير لاحق.1 كان هذا المفهوم مدعوماً من قبل علماء طبيعة بارزين مثل الفرنسي جورج كوفييه، الذي رأى في الأنواع مجموعات ثابتة لا تخضع إلا للخلق والانقراض.1
رسخت هذه العقيدة جذورها في مفاهيم فلسفية أعمق شكلت عائقاً فكرياً قوياً أمام أي فكرة تطورية. من بين هذه المفاهيم كانت “سلسلة الوجود العظمى” (Great Chain of Being)، وهي فكرة تعود إلى الفلاسفة اليونانيين وتصور الحياة كنظام هرمي ثابت، حيث يتم ترتيب جميع الكائنات الحية في تسلسل متدرج من الأدنى إلى الأعلى، دون أي إمكانية للحركة أو التغيير.3 بالإضافة إلى ذلك، هيمن مذهب “الجواهر” (essentialism) الأفلاطوني، الذي يفترض أن لكل نوع “صورة” مثالية وأبدية وغير قابلة للتغيير، وأن الأفراد الذين نراهم في الطبيعة ليسوا سوى تجليات ناقصة لهذه الصورة الثابتة.4 هذه الأفكار مجتمعة جعلت من فكرة تحول الأنواع أمراً غير وارد بل ومستحيلاً من الناحية الميتافيزيقية. وعلى الرغم من وجود بعض الأفكار التطورية المبكرة، مثل تلك التي طرحها جد داروين نفسه، إيراسموس داروين، في كتابه “زونوميا”، ونظرية التحول التي قدمها جان باتيست لامارك، إلا أنها كانت تفتقر إلى آلية مقنعة وقوبلت بالرفض إلى حد كبير من قبل المؤسسة العلمية، مما يؤكد أن السياق الفكري الذي سبق رحلة داروين على سفينة البيغل كان معادياً بشدة لفكرة التطور.6
1.2 تشارلز داروين: ثوري غير متوقع
لم يكن في سيرة تشارلز داروين المبكرة ما ينبئ بأنه سيصبح الشخصية التي ستقلب الموازين العلمية رأساً على عقب. وُلد داروين عام 1809 في كنف عائلة ثرية ومثقفة ذات ميول فكرية متحررة، ونشأ في بيئة مرفهة.6 منذ صغره، أظهر شغفاً فطرياً بالطبيعة، حيث كان يقضي وقته في جمع الخنافس والنباتات، وهو شغف بلغ حداً أثار قلق والده الطبيب روبرت داروين، الذي كان يخشى أن يصبح ابنه مجرد “رجل ثري عاطل” لا هم له سوى الصيد والكلاب.8 هذا الشغف المبكر كان المؤشر الوحيد على المسار الذي ستأخذه حياته، والذي وجد متنفساً حقيقياً له فقط خلال رحلة داروين على سفينة البيغل.
كان مساره التعليمي سلسلة من الإخفاقات الظاهرية التي،paradoxically، مهدت الطريق لأعظم إنجازاته. في مدرسة شروزبري، كان أداؤه متواضعاً، واعتبره أساتذته ووالده “فتى عادياً، بل أقل من الذكاء المعتاد”.8 أُرسل بعد ذلك لدراسة الطب في جامعة إدنبرة، لكنه سرعان ما نفر من المحاضرات المملة والمشاهد المروعة للجراحات التي كانت تُجرى آنذاك دون تخدير، فترك الدراسة بعد عامين فقط.7 في محاولة يائسة لتوجيهه نحو مسار مهني محترم، أرسله والده إلى جامعة كامبريدج ليدرس ويصبح قساً في كنيسة إنجلترا، وهو مسار بدا وكأنه لا يتناسب مع ميوله الحقيقية.8 ومع ذلك، كانت فترة كامبريدج حاسمة، ليس بسبب دراسته الدينية، بل بسبب الصداقات التي كونها مع شخصيات علمية بارزة مثل عالم النبات جون ستيفنز هنسلو وعالم الجيولوجيا آدم سيدجويك. هذان الأستاذان هما من رعيا اهتماماته العلمية، وعلماه أسس العمل الميداني، وحولاه من هاوٍ شغوف إلى عالم طبيعة ناشئ، مما جعله مرشحاً مثالياً عندما سنحت فرصة
رحلة داروين على سفينة البيغل.8
إن فشل داروين في التكيف مع المسارات المهنية التقليدية المرموقة كالطب أو الكهنوت لم يكن انحرافاً عن مصيره، بل كان شرطاً أساسياً لتحقيقه. هذه “الإخفاقات” المتتالية تركته في سن الثانية والعشرين دون التزامات مهنية محددة، مما جعله متاحاً بشكل فريد لقبول عرض غير مدفوع الأجر لرحلة محفوفة بالمخاطر حول العالم، وهو عرض كان سيرفضه حتماً أي محترف ذي مسيرة مهنية مستقرة.12 وهكذا، فإن ما بدا وكأنه فشل شخصي ومهني كان في الواقع الظرف الذي سمح له باغتنام الفرصة التاريخية. علاوة على ذلك، انطلق داروين في هذه الرحلة ليس كخبير متمرس مثقل بعقائد مجاله، بل كـ”عالم طبيعة نبيل” هاوٍ ومتحمس. هذا الوضع منحه حرية فكرية لا تقدر بثمن؛ فلم يكن لديه سمعة مهنية يخشى عليها، مما سمح له بالتساؤل حول الحقائق الراسخة وتحديها عندما واجهته أدلة متناقضة، سواء كانت حفريات أمريكا الجنوبية أو تنوعات جزر غالاباغوس. لقد كانت رحلة داروين على سفينة البيغل جامعته الحقيقية، حيث قال هو نفسه إن تعليمه “بدأ حقاً على متن البيغل”.12
للإطلاع على تحليل كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروين
القسم الثاني: دعوة غير متوقعة: الإبحار في مهمة لرسم الخرائط
2.1 مهمة سفينة البيغل
لم تكن رحلة داروين على سفينة البيغل في جوهرها بعثة علمية خالصة، بل كانت مهمة جيوسياسية وكارتوغرافية تخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية. كان الهدف الأساسي للرحلة الثانية لسفينة “إتش إم إس بيغل” هو استكمال المسح الهيدروغرافي للسواحل الجنوبية لأمريكا الجنوبية، والذي بدأ في رحلتها الأولى.14 كانت الأميرالية البريطانية تسعى إلى رسم خرائط دقيقة للموانئ والممرات المائية في هذه المنطقة الحيوية لتسهيل التجارة والملاحة البحرية وتعزيز النفوذ البريطاني.16 ولتحقيق هذه الغاية، كانت الدقة في تحديد خطوط الطول أمراً بالغ الأهمية، وهو ما يفسر حمل السفينة لـ 22 كرونومتراً بحرياً، وهي أدوات متطورة لقياس الزمن بدقة، كانت ضرورية لإجراء حسابات ملاحية دقيقة.15
إلى جانب هذه المهمة الرسمية، كانت للرحلة أهداف أخرى أقل تقليدية. كان من المقرر أن تعيد السفينة ثلاثة من سكان أرض النار الأصليين (فوغيانز) إلى وطنهم، والذين كان الكابتن فيتزروي قد أخذهم إلى إنجلترا خلال الرحلة الأولى بهدف “تثقيفهم” وتحويلهم إلى المسيحية.15 حمل هذا الجانب من المهمة طابعاً تبشيرياً واستعمارياً، حيث كان فيتزروي يأمل أن يعمل هؤلاء الأفراد كجسر لنشر الثقافة والقيم البريطانية في أقصى جنوب القارة الأمريكية. إن الطبيعة المتعددة الأهداف لهذه الرحلة، والتي كانت في صميمها عسكرية واقتصادية، هي التي خلقت الظروف غير المتوقعة التي سمحت بإجراء أبحاث علمية غيرت مجرى التاريخ، مما يجعل النتائج البيولوجية لـ رحلة داروين على سفينة البيغل نتيجة ثانوية مذهلة لمهمة إمبريالية.
2.2 رفيق للكابتن
كان انضمام داروين إلى البعثة نتاجاً لظروف شخصية فريدة تتعلق بقبطان السفينة، روبرت فيتزروي، أكثر من كونه حاجة علمية ملحة للمهمة. كان فيتزروي، البالغ من العمر 26 عاماً، قائداً أرستقراطياً وكفؤاً، ولكنه كان أيضاً رجلاً متديناً بعمق، وميالاً إلى الكآبة، ويخشى من العزلة والضغط النفسي الهائل الذي يفرضه منصب القيادة في رحلة طويلة وخطرة.7 كانت ذكرى انتحار القبطان السابق لسفينة البيغل، برينغل ستوكس، خلال الرحلة الأولى ماثلة في ذهنه، مما دفعه للبحث عن “رفيق نبيل” (gentleman companion) أكثر من مجرد جامع عينات.12 كان بحاجة إلى شخص من نفس طبقته الاجتماعية ومستواه الفكري، يمكنه أن يشاركه الحديث على مائدة العشاء ويخفف عنه وطأة الوحدة القاتلة في البحار.15
جاءت فرصة رحلة داروين على سفينة البيغل عبر سلسلة من التوصيات. عندما طلب فيتزروي من الأميرالية السماح له باصطحاب عالم طبيعة على نفقته الخاصة، وصل الطلب إلى أساتذة جامعة كامبريدج. قام جون ستيفنز هنسلو، أستاذ علم النبات وصديق داروين، بترشيح الشاب تشارلز للمنصب بعد أن رفض هو نفسه وآخرون العرض بسبب التزاماتهم.12 لم يكن داروين الخيار الأول، لكن مهاراته الاجتماعية الجذابة وشغفه الواضح بالتاريخ الطبيعي جعلاه المرشح المثالي لدور الرفيق المثقف. وهكذا، فإن الدور الذي قُدِّر لداروين أن يلعبه كان اجتماعياً بقدر ما كان علمياً، وهو ما يبرز الطبيعة العرضية وغير المخطط لها لواحدة من أهم الرحلات العلمية في التاريخ.
2.3 التغلب على العقبات والانطلاق
لم يكن طريق داروين إلى سطح سفينة البيغل مفروشاً بالورود. كانت العقبة الأولى والأكبر هي والده، الدكتور روبرت داروين، الذي رأى في هذه الرحلة مغامرة أخرى طائشة ومضيعة للوقت، ستزيد من إبعاد ابنه عن أي مسار مهني جاد ومستقر.12 رفض الدكتور داروين الفكرة رفضاً قاطعاً، معتبراً إياها مجرد نزوة أخرى من نزوات ابنه الذي “لا يهتم بشيء سوى الصيد والكلاب وصيد الجرذان”.9 بدا أن الحلم قد تبخر، لكن داروين، بتشجيع من خاله، جوزايا ويدجوود الثاني، لم يستسلم. لعب الخال دوراً حاسماً، حيث كتب رسالة منهجية ومنطقية إلى الدكتور داروين، فند فيها اعتراضاته واحداً تلو الآخر، مؤكداً أن هذه الفرصة قد تكون نقطة تحول إيجابية في حياة الشاب. أمام حكمة ويدجوود، الذي كان الدكتور داروين يكن له احتراماً كبيراً، رضخ الأب أخيراً، ووافق ليس فقط على ذهاب ابنه بل وعلى تمويل الرحلة بالكامل.13
بعد التغلب على معارضة الأب، واجهت البعثة تأخيرات أخرى بسبب أعمال التجهيز الشاملة للسفينة وسوء الأحوال الجوية. وأخيراً، في 27 ديسمبر 1831، أبحرت سفينة “إتش إم إس بيغل”، وهي مركب شراعي حربي صغير ومكتظ يبلغ طوله 27 متراً فقط، من ميناء بليموث، لتبدأ رحلة داروين على سفينة البيغل التي كان من المخطط أن تستمر عامين، لكنها امتدت لما يقرب من خمس سنوات.20 لقد كانت الديناميكية بين داروين وفيتزروي هي الدراما الإنسانية المحورية في هذه الرحلة؛ ففي البداية، كانت علاقتهما تكافلية، حيث قدم داروين الرفقة الفكرية التي أنقذت فيتزروي من عزلته، بينما وفر فيتزروي المنصة التي أتاحت لداروين فرصة استكشاف العالم. لكن وجهات نظرهم المتناقضة جذرياً – طبيعانية داروين الناشئة مقابل خلقية فيتزروي المتجذرة – كانت في مسار تصادمي حتمي، وهو ما تجلى في خلافاتهم حول قضايا مثل العبودية في البرازيل.22 هذا الصدام الفكري في مقصورة القبطان كان بمثابة نموذج مصغر للصراع المجتمعي الأوسع الذي ستثيره نظرية داروين لاحقاً.
القسم الثالث: بوتقة أمريكا الجنوبية: الحفريات والزلازل وضخامة الزمن
لم تكن جزر غالاباغوس، على شهرتها، هي المكان الذي وُلدت فيه ثورة داروين الفكرية، بل كانت سواحل وسهول وجبال أمريكا الجنوبية هي البوتقة الحقيقية التي صُهرت فيها أفكاره الأولى. هنا، تحول داروين من مجرد جامع عينات شغوف إلى مُنظِّر جريء، وكان علم الجيولوجيا هو العدسة التي رأى من خلالها العالم بطريقة جديدة. إن اكتشاف عالم مفقود من الحفريات العملاقة، ومعايشة القوى الجيولوجية الهائلة بشكل مباشر، أعاد تشكيل فهمه لمفهومين أساسيين: الزمن والتغيير. لقد كانت هذه المرحلة من رحلة داروين على سفينة البيغل هي التي أرست الأساس الفكري لكل ما سيأتي بعدها.
النطاق الزمني | الموقع (المواقع) الأساسية | الأنشطة الرئيسية والتركيز العلمي / الاكتشاف | المصادر ذات الصلة |
ديسمبر 1831 – يناير 1832 | الانطلاق من بليموث؛ عبور المحيط الأطلسي | الانطلاق؛ دوار البحر الأولي؛ أول استخدام لشبكة العوالق؛ ملاحظات جيولوجية في سانتياغو، الرأس الأخضر، تؤكد مبادئ لايل. | 21 |
فبراير 1832 – يوليو 1834 | الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية (البرازيل، أوروغواي، الأرجنتين) | أول تجربة في غابة استوائية مطيرة؛ جمع مكثف للحفريات في بونتا ألتا ومواقع أخرى (ميجاثيريوم، توكسودون)؛ اكتشاف “قانون تعاقب الأنواع”؛ استكشاف باتاغونيا وأرض النار. | 27 |
يوليو 1834 – سبتمبر 1835 | الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية (تشيلي، بيرو) وجبال الأنديز | عبور جبال الأنديز؛ اكتشاف حفريات بحرية على ارتفاعات شاهقة؛ مشاهدة زلزال كونسيبسيون عام 1835 والارتفاع اللاحق للأرض، مما قدم دليلاً مباشراً على نظريات لايل. | 23 |
سبتمبر – أكتوبر 1835 | أرخبيل غالاباغوس | جمع طيور المحاكي، السلاحف، والعصافير؛ ملاحظة التباين بين الجزر، مما زرع بذور الشك حول ثبات الأنواع. | 28 |
نوفمبر 1835 – يناير 1836 | عبر المحيط الهادئ (تاهيتي، نيوزيلندا) | ملاحظات حول ثقافات البولينيزيين والماوري؛ ملاحظات جيولوجية. | 12 |
يناير – مارس 1836 | أستراليا (سيدني، تسمانيا) | مواجهة حيوانات جرابية فريدة (خلد الماء، البوتورو)، مما أثار تأملات حول الجغرافيا الحيوية ومراكز الخلق المنفصلة. | 18 |
أبريل 1836 | جزر كوكوس (كيلينغ) | دراسة الشعاب المرجانية، مما أدى إلى تطوير نظريته حول تكوين الجزر المرجانية الحلقية (الأتول) من خلال الهبوط التدريجي. | 26 |
مايو – أكتوبر 1836 | المحيط الهندي، جنوب أفريقيا، والعودة إلى إنجلترا | ملاحظات أخيرة؛ تأمل في الكم الهائل من البيانات المجمعة؛ الوصول إلى فالموث، إنجلترا في 2 أكتوبر 1836. | 12 |
3.1 التدريب الجيولوجي: قراءة لايل، ورؤية العالم
كان كتاب “مبادئ الجيولوجيا” لعالم الجيولوجيا الاسكتلندي تشارلز لايل، الذي قرأه داروين بشغف على متن السفينة، بمثابة الإطار النظري الذي وجه ملاحظاته الميدانية.23 قدم لايل فكرة ثورية عُرفت بـ”الوتيرة الواحدة” (uniformitarianism)، والتي تفترض أن الأرض تشكلت بفعل قوى بطيئة وتدريجية، مثل التعرية والبراكين والزلازل، وهي نفس القوى التي لا تزال تعمل في وقتنا الحاضر. هذه الفكرة تحدت المفهوم السائد آنذاك عن تاريخ الأرض القصير الذي شكلته كوارث عنيفة، واقترحت بدلاً من ذلك أن الأرض قديمة جداً، وأن التغيرات الصغيرة المتراكمة على مدى فترات زمنية هائلة يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات جيولوجية ضخمة.23 لقد كانت رحلة داروين على سفينة البيغل بمثابة اختبار عملي واسع النطاق لنظرية لايل.
منذ محطته الأولى في جزيرة سانتياغو في الرأس الأخضر، بدأ داروين بتطبيق أفكار لايل، حيث لاحظ وجود شريط أبيض من الأصداف البحرية في المنحدرات البركانية فوق مستوى سطح البحر، مما يشير إلى أن الجزيرة قد ارتفعت.26 لكن الدليل الأكثر دراماتيكية جاء في فبراير 1835، عندما كان في تشيلي وشهد بنفسه آثار زلزال كونسيبسيون المدمر. لم يقتصر الأمر على رؤية الدمار، بل لاحظ أن الأرض نفسها قد ارتفعت عدة أقدام، حيث أصبحت طبقات بلح البحر التي كانت مغمورة سابقاً مكشوفة فوق خط المد العالي.23 كانت هذه لحظة فارقة، فقد رأى بعينيه القوة التراكمية للعمليات الجيولوجية التي تحدث عنها لايل. تعزز هذا الاقتناع أكثر عندما اكتشف غابات متحجرة وأصدافاً بحرية على ارتفاعات شاهقة في جبال الأنديز، وهو دليل قاطع على أن هذه السلسلة الجبلية الهائلة قد ارتفعت تدريجياً من قاع المحيط على مدى عصور لا يمكن تصورها.25 هذه الاكتشافات لم تجعل منه جيولوجياً محترماً فحسب، بل فتحت عقله على مفهوم “الزمن السحيق”، وهو شرط أساسي لا غنى عنه لتصور عملية التطور البيولوجي البطيئة والتدريجية.
3.2 مقبرة العمالقة: اللغز الأحفوري
في سهول باتاغونيا القاحلة، كشفت رحلة داروين على سفينة البيغل عن عالم آخر، عالم منقرض من الوحوش العملاقة. ابتداءً من سبتمبر 1832 في بونتا ألتا بالأرجنتين، عثر داروين على ما وصفه بأنه “مقبرة حقيقية لوحوش من سلالات منقرضة”.27 كانت اكتشافاته مذهلة: هياكل عظمية لحيوانات المدرع العملاقة (الغليبتودونت)، وحيوانات الكسلان الأرضية الضخمة مثل الميجاثيريوم والميلودون، وحيوان التوكسودون الذي يشبه فرس النهر، والماكروكينيا الشبيه بالجمل.30 كانت هذه الحفريات دليلاً ملموساً على أن الحياة على الأرض لم تكن ثابتة، وأن أنواعاً بأكملها قد ظهرت ثم اختفت.
كان الاكتشاف الأكثر إثارة للدهشة هو العثور على أسنان حصان منقرض (Equus curvidens) في نفس الطبقات الجيولوجية التي وجدت فيها هذه الوحوش الأخرى.32 كان هذا الأمر محيراً للغاية، حيث كان من المعتقد أن الخيول لم تطأ أقدامها الأمريكتين قبل أن يجلبها المستعمرون الإسبان. لكن الأهم من مجرد إثبات الانقراض، كان النمط الذي لاحظه داروين. فقد أدرك أن هذه الأنواع المنقرضة كانت تشبه بشكل غريب الأنواع الحية الأصغر حجماً التي تعيش في نفس القارة. فحيوانات المدرع العملاقة المنقرضة كانت تشبه حيوانات المدرع الحديثة، وحيوانات الكسلان الأرضية الضخمة كانت نسخة عملاقة من حيوانات الكسلان التي تعيش على الأشجار. هذا النمط، الذي أطلق عليه لاحقاً “قانون تعاقب الأنواع”، طرح سؤالاً جوهرياً: لماذا يتم “استبدال” الأنواع المنقرضة بأنواع أخرى مشابهة لها في نفس الموقع الجغرافي؟ إن نظرية الخلق الخاص، التي تفترض خلق كل نوع بشكل مستقل، لم تقدم أي تفسير منطقي لهذا التشابه المذهل. في المقابل، كان هذا النمط يشير بقوة إلى وجود علاقة قرابة، إلى نوع من “النسب” بين الأنواع المنقرضة والأنواع الحية، وهي الفكرة التي شكلت أول خيط في نسيج نظريته التطورية.29
القسم الرابع: أرخبيل غالاباغوس: مختبر حي للتحول
إذا كانت أمريكا الجنوبية قد منحت داروين مفهوم الزمن السحيق ودليل التغيير عبر العصور (الحفريات)، فإن أرخبيل غالاباغوس، الذي زاره لمدة خمسة أسابيع محورية في خريف عام 1835، قدم له مثالاً حياً ومكثفاً على التغيير عبر المكان. كانت هذه الجزر البركانية المعزولة بمثابة مختبر طبيعي، يعرض نتائج تجربة تطورية استمرت آلاف السنين. لم تكن مجرد مجموعة من الجزر ذات الكائنات الغريبة، بل كانت لغزاً بيولوجياً منظماً، حيث ارتبط التنوع ارتباطاً وثيقاً بالجغرافيا، وهو لغز لم يكن من الممكن حله إلا من خلال منظور جديد تماماً. لقد كانت هذه المحطة من رحلة داروين على سفينة البيغل هي التي حولت الشكوك المبكرة إلى أسئلة علمية محددة.
4.1 عالم بحد ذات
عند وصوله إلى غالاباغوس، كانت انطباعات داروين الأولية سلبية؛ فقد وصف الأرخبيل بمظهره البركاني القاحل والمناظر الطبيعية التي تشبه الجحيم.33 لكن سرعان ما استبدل هذا الانطباع بالدهشة العلمية عندما بدأ في استكشاف الكائنات الفريدة التي تسكن هذه الجزر. لاحظ وجود حيوانات مثل الإغوانا البحرية، وهي السحلية الوحيدة في العالم التي تتغذى في المحيط، والسلاحف العملاقة، وهي كائنات بدت وكأنها من عصر آخر.34 الأهم من ذلك، أدرك داروين أن هذه الأنواع، رغم تفردها، كانت تشبه بشكل واضح الأنواع الموجودة في قارة أمريكا الجنوبية القريبة، ولكنها في نفس الوقت مختلفة عنها. هذا المزيج من التشابه والاختلاف أثار تساؤلاً أساسياً: هل تم خلق هذه الأنواع بشكل مستقل في غالاباغوس، أم أنها انحدرت من أسلاف قارية ثم تغيرت بعد وصولها إلى الأرخبيل؟ لقد كانت رحلة داروين على سفينة البيغل قد وضعته وجهاً لوجه مع لغز أصل الأنواع.
4.2 السلاحف وطيور المحاكي ومفتاح التنوع
جاء الدليل الأكثر حسماً من مصدر غير متوقع: نيكولاس لوسون، نائب حاكم الأرخبيل الإنجليزي المؤقت. خلال حديثه مع داروين، ذكر لوسون ملاحظة عرضية مفادها أنه يستطيع تحديد الجزيرة التي تنتمي إليها أي سلحفاة عملاقة بمجرد النظر إلى شكل صدفتها.34 كانت بعض السلاحف ذات أصداف مقببة، بينما كانت أخرى ذات أصداف تشبه سرج الحصان، وهو شكل يسمح لها بمد أعناقها للوصول إلى النباتات العالية. كانت هذه المعلومة بمثابة شرارة فكرية؛ فقد ربطت بشكل مباشر بين السمة الجسدية للكائن وموقعه الجغرافي المعزول.34
لاحظ داروين بنفسه نمطاً مشابهاً في طيور المحاكي (mockingbirds). فقد أدرك أن الطيور التي جمعها من جزر مختلفة لم تكن مجرد أصناف متنوعة، بل كانت أنواعاً مميزة ومنفصلة.33 كانت هذه الملاحظة، أكثر من أي شيء آخر في غالاباغوس، هي التي هزت إيمانه بعقيدة “ثبات الأنواع”. فإذا كانت كل جزيرة صغيرة تمتلك نوعاً فريداً من طيور المحاكي، فكيف يمكن تفسير ذلك من خلال الخلق المستقل؟ بدا من غير المنطقي أن يتم خلق أنواع متشابهة ولكن مختلفة بشكل طفيف في كل جزيرة على حدة. الاحتمال الأكثر منطقية هو أن سلفاً مشتركاً قد استعمر الأرخبيل، ثم تباينت سلالاته المعزولة في كل جزيرة لتشكل أنواعاً جديدة. لقد كتب في مذكراته أن مثل هذه الحقائق “من شأنها أن تقوض استقرار الأنواع”، وهي لحظة نادرة تكشف عن عمق الأفكار الثورية التي بدأت تتشكل في ذهنه خلال رحلة داروين على سفينة البيغل.36
4.3 عصافير داروين: إرث غير مقصود
من المفارقات أن أشهر أيقونات غالاباغوس، “عصافير داروين”، لم تكن محور اهتمامه الرئيسي أثناء وجوده هناك. في الواقع، كان تعامله معها أقرب إلى الإهمال العلمي؛ فقد فشل في إدراك أنها جميعاً تنتمي إلى مجموعة واحدة من العصافير، وصنفها بشكل خاطئ على أنها أنواع مختلفة من الطيور مثل “النمنمة” و”ذوات المناقير الغليظة”.37 والأهم من ذلك، أنه أهمل تدوين الجزيرة التي جمع منها كل عينة، وهو خطأ فادح كان من الممكن أن يضيع الدليل الأهم. لحسن الحظ، كان الكابتن فيتزروي وأعضاء آخرون من الطاقم أكثر دقة في جمع عيناتهم وتصنيفها، وهو ما أنقذ الموقف لاحقاً.39
لم تتضح الأهمية الحقيقية لهذه العصافير إلا بعد عودته إلى إنجلترا. عندما فحص عالم الطيور الشهير جون غولد عينات داروين، أدرك أنها جميعاً تشكل مجموعة جديدة تماماً من العصافير الأرضية، تضم 12 نوعاً لم تكن معروفة من قبل.35 عندها فقط، وبعد ربط أنواع غولد بالمواقع الجغرافية الدقيقة من مجموعات فيتزروي، أدرك داروين الصورة الكاملة. لقد رأى “تدرجاً مثالياً” في أشكال وأحجام مناقيرها، حيث كان كل منقار مكيفاً بشكل مثالي لنوع معين من الغذاء المتاح في جزيرته: مناقير ضخمة وقوية لسحق البذور الصلبة، ومناقير رفيعة وحادة لالتقاط الحشرات، ومناقير شبيهة بمنقار الببغاء لأكل الفاكهة.34 لقد كان هذا مثالاً كلاسيكياً على ما يعرف الآن بـ”التكيف الإشعاعي” (adaptive radiation)، حيث “أُخذ نوع واحد وتم تعديله لأغراض مختلفة”.35 إن قصة عصافير داروين تكشف أن الاكتشاف العلمي ليس دائماً “لحظة إلهام” واحدة، بل غالباً ما يكون عملية بناء فوضوية وتشاركية وتأملية، حيث يتم تجميع الأدلة التي تم جمعها خلال رحلة داروين على سفينة البيغل وتفسيرها بأثر رجعي.
القسم الخامس: منظور عالمي: من الجرابيات الأسترالية إلى الجزر المرجانية الحلقية
بعد مغادرة الأمريكتين، حولت رحلة داروين على سفينة البيغل مسارها غرباً عبر المحيط الهادئ، لتكمل دورة حول العالم. هذه المرحلة من الرحلة وسعت من نطاق ملاحظاته، وقدمت له مجموعة بيانات عالمية لاختبار أفكاره الناشئة. في أستراليا، واجهه عالم بيولوجي غريب يتحدى منطق الخلق الموحد. وفي جزر كيلينغ المرجانية، حل لغزاً جيولوجياً عظيماً، مما عزز ثقته في قدرته على بناء نظريات كبرى من خلال ملاحظات دقيقة. لقد أظهرت هذه المرحلة من الرحلة أن الأسئلة التي كان يطرحها حول أصل الأنواع وتكيفها لم تكن خاصة بأمريكا الجنوبية وحدها، بل كانت أسئلة عالمية تتطلب إجابات عالمية.
5.1 أستراليا: خلق منفصل؟
عندما وصل داروين إلى سيدني في يناير 1836، دخل عالماً بيولوجياً بدا وكأنه يعمل وفقاً لمجموعة مختلفة تماماً من القواعد. لقد أذهلته الحيوانات الجرابية الفريدة في أستراليا، مثل خلد الماء (Platypus) الغريب الذي يجمع بين صفات الثدييات والطيور، والبوتورو (rat-kangaroo) الذي يشغل نفس المكانة البيئية للأرانب في أوروبا.26 هذه الحيوانات الغريبة دفعته إلى تأمل عميق دونه في مذكراته، حيث تساءل عما إذا كان “الكافر بكل شيء يتجاوز عقله” قد يصرخ قائلاً: “بالتأكيد لا بد أن خالقين مختلفين كانا يعملان هنا”.39
كان هذا التساؤل أكثر من مجرد ملاحظة عابرة؛ لقد كان تحدياً مباشراً لنموذج الخلق السائد. إذا كان الخالق قد صمم الكائنات بشكل مثالي لبيئاتها، فلماذا يستخدم “مخططين” مختلفين تماماً – الثدييات المشيمية في أوروبا والجرابيات في أستراليا – لأداء وظائف بيئية متشابهة؟ لم يكن هناك تفسير منطقي في إطار الخلق الخاص. في المقابل، قدمت الجغرافيا الحيوية (دراسة توزيع الأنواع) دليلاً قوياً على التطور. التفسير التطوري أكثر بساطة: أستراليا انفصلت وأصبحت معزولة قبل أن تهيمن الثدييات المشيمية على بقية العالم، مما سمح لأسلافها من الجرابيات بالتنوع والتكيف لملء جميع المنافذ البيئية المتاحة. وهكذا، فإن الحيوانات الغريبة التي لاحظها داروين في أستراليا خلال رحلة داروين على سفينة البيغل لم تكن مجرد عجائب طبيعية، بل كانت شذوذاً قوياً يتحدى الفكر التقليدي ويؤيد بقوة فكرة التطور في عزلة جغرافية.
5.2 جزر كيلينغ ونظرية الجزر المرجانية الحلقية
في أبريل 1836، رست سفينة البيغل في جزر كوكوس (كيلينغ) في المحيط الهندي، وهي الجزر المرجانية الحلقية (الأتول) الوحيدة التي زارها داروين.42 كانت هذه الجزر، وهي حلقات مرجانية منخفضة تحيط ببحيرة ضحلة، تمثل لغزاً جيولوجياً كبيراً في ذلك الوقت. النظرية السائدة، التي تبناها لايل نفسه، كانت تفترض أنها تتشكل من نمو المرجان على حواف فوهات البراكين المغمورة. لكن داروين، من خلال ملاحظاته واستنتاجاته، توصل إلى نظرية أكثر أناقة وقوة.
لقد كانت نظرية داروين لتكوين الجزر المرجانية الحلقية تطبيقاً عبقرياً لمبادئ لايل التدريجية. افترض داروين أن هذه التكوينات ليست سوى المرحلة النهائية في عملية طويلة من التغيير التدريجي. تبدأ العملية بوجود جزيرة بركانية تنمو حولها الشعاب المرجانية كـ”شعاب حافة” (fringing reef). مع مرور الزمن الجيولوجي، تبدأ الجزيرة البركانية في الهبوط ببطء، بينما تستمر الشعاب المرجانية في النمو إلى الأعلى، مواكبة مستوى سطح البحر للحصول على ضوء الشمس. يؤدي هذا إلى تكوين “شعاب حاجز” (barrier reef) تفصلها بحيرة عن الجزيرة. في النهاية، تختفي الجزيرة البركانية تماماً تحت سطح الماء، ولا يتبقى سوى حلقة من الشعاب المرجانية الحية، وهي “الأتول”.23 هذه النظرية لم تفسر فقط شكل الأتول، بل ربطت ثلاثة أنواع مختلفة من الشعاب المرجانية في تسلسل تطوري واحد. لقد كانت هذه النظرية، التي نشرها في كتابه الأول “بنية وتوزيع الشعاب المرجانية” عام 1842، بمثابة “بروفة” منهجية لنظريته عن التطور البيولوجي. فقد أظهرت قدرته على تفسير ظاهرة عالمية معقدة كنتيجة تراكمية لعمليات بسيطة ومستمرة (الهبوط والنمو) على مدى فترات زمنية هائلة. النجاح الفوري الذي حققته هذه النظرية، والذي تم إثباته لاحقاً بالحفر الذي كشف عن صخور بركانية في أعماق الجزر المرجانية، لا بد أنه منحه ثقة هائلة في منهجه العلمي الذي تطور خلال رحلة داروين على سفينة البيغل.43
القسم السادس: الحصاد الفكري: من الملاحظات الميدانية إلى نظرية التطور
لم تكن نهاية رحلة داروين على سفينة البيغل في أكتوبر 1836 هي خاتمة القصة، بل كانت بداية الفصل الأكثر أهمية. لقد كانت الرحلة المادية لجمع البيانات، ولكن الرحلة الفكرية التي تلتها كانت هي الاستكشاف الحقيقي. على مدى أكثر من عقدين من الزمان، عكف داروين في عزلة نسبية على تحويل الكم الهائل من الملاحظات الأولية والأفكار الجنينية التي جمعها إلى نظرية علمية متماسكة وقوية. لقد أدرك أن العينات والملاحظات، مهما كانت غنية، تظل مجرد مجموعة من الحقائق المتناثرة ما لم يتم تنظيمها وتفسيرها من خلال إطار نظري شامل. كان المنتج الحقيقي للرحلة ليس آلاف العينات التي أرسلها إلى إنجلترا، بل الفكرة الثورية التي انبثقت عنها.
6.1 العودة والتوليف
عندما عاد داروين إلى إنجلترا، وجد أن سمعته كعالم طبيعة واعد قد سبقته، وذلك بفضل صديقه ومعلمه هنسلو الذي قام بنشر مقتطفات من رسائله العلمية دون علمه.12 انغمس داروين على الفور في مهمة شاقة تتمثل في فرز وتصنيف مجموعاته الهائلة، وتوزيعها على الخبراء المتخصصين في مختلف المجالات لتحليلها.44 لكن في خضم هذا العمل، بدأ في عملية أعمق وأكثر أهمية: التأمل في أكثر من 1600 صفحة من الملاحظات واليوميات التي دونها خلال خمس سنوات.19 كانت الفترة ما بين عامي 1836 و 1838 فترة من التفكير المكثف، حيث كان يربط بين الأدلة المتباينة التي جمعها: العلاقة بين الحفريات المنقرضة والأنواع الحية في أمريكا الجنوبية، والتوزيع الجغرافي للأنواع المتشابهة ولكن المختلفة في جزر غالاباغوس، والأنماط الغريبة للحيوانات في أستراليا. كانت كل هذه الحقائق تشير في اتجاه واحد: الأنواع ليست ثابتة.
6.2 الدفاتر السرية: “أنا أعتقد”
في يوليو 1837، بعد أقل من عام على عودته، فتح داروين أول دفتر من سلسلة دفاتره الخاصة التي عُرفت لاحقاً بـ”دفاتر التحول” (Transmutation Notebooks). كانت هذه الدفاتر، التي حملت الأحرف B، C، D، E، بمثابة “البذرة الحقيقية لكتاب أصل الأنواع”، حيث صاغ فيها أفكاره سراً، وجرب الفرضيات، ووضع أسس نظريته.46 في الصفحة 36 من الدفتر B، رسم داروين رسماً تخطيطياً بسيطاً ولكنه عميق الأثر: شجرة متفرعة، وكتب فوقها عبارة “أنا أعتقد” (I think).17 كان هذا الرسم بمثابة ثورة بصرية ومفاهيمية. فبدلاً من “سلم” أو “سلسلة” الوجود الخطية والهرمية التي سادت الفكر الغربي لآلاف السنين، والتي تضع الإنسان في القمة، قدم داروين نموذجاً جديداً للحياة: شجرة تاريخية وديناميكية. في هذه الشجرة، لا توجد أنواع “أعلى” أو “أدنى”، بل هناك علاقات قرابة تعود إلى أسلاف مشتركة في الماضي. هذا النموذج المتفرع لم يفسر العلاقات بين الأنواع فحسب، بل استوعب أيضاً مفهوم الانقراض بشكل طبيعي (الفروع التي لا تصل إلى القمة). لقد كانت هذه اللحظة التي بدأت فيها البيانات التي جمعها خلال رحلة داروين على سفينة البيغل تتخذ شكلاً نظرياً متماسكاً.
6.3 شرارة مالتوس والانتقاء الطبيعي
بحلول عام 1838، كان داروين مقتنعاً تماماً بأن التطور حقيقة واقعة، لكنه كان يفتقر إلى آلية مقنعة تشرح كيف يحدث. كيف تتكيف الأنواع مع بيئاتها بشكل مثالي؟ كيف تنشأ أنواع جديدة؟ جاءت الإجابة من مصدر غير متوقع. في سبتمبر 1838، قرأ داروين “مقالة في مبدأ السكان” للاقتصادي توماس مالتوس.47 جادل مالتوس بأن السكان البشريين يميلون إلى النمو بمعدل أسي، بينما تزداد الموارد الغذائية بمعدل حسابي فقط، مما يؤدي حتماً إلى “صراع من أجل البقاء” حيث لا يتمكن الجميع من النجاة.48
كانت هذه هي الشرارة التي أضاءت عقل داروين. أدرك على الفور أن هذا المبدأ لا ينطبق على البشر فحسب، بل على جميع الكائنات الحية. في هذا الصراع المستمر من أجل البقاء، فإن أي فرد يولد بـ”تنوع ملائم” – أي سمة تمنحه ميزة طفيفة في بيئته، مثل تمويه أفضل، أو قدرة أسرع على الجري، أو مقاومة أكبر للمرض – سيكون لديه فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، وتوريث هذه السمة المفيدة لأبنائه. في المقابل، فإن الأفراد ذوي التنوعات غير الملائمة سيميلون إلى الهلاك. على مدى أجيال عديدة، سيؤدي هذا الفرز المستمر إلى تراكم التغيرات الملائمة، مما يؤدي إلى تكيف الأنواع مع بيئاتها، وفي النهاية، إلى ظهور أنواع جديدة. أطلق داروين على هذه الآلية اسم “الانتقاء الطبيعي” (Natural Selection).1 لقد وجد أخيراً المحرك الذي يقود التطور، وهو محرك طبيعي بالكامل، لا يتطلب أي تدخل خارق. لقد اكتملت الآن الرؤية التي بدأت تتشكل خلال رحلة داروين على سفينة البيغل.
6.4 التأخير الطويل و”الأصل”
على الرغم من هذا الإنجاز الفكري الهائل في عام 1838، لم ينشر داروين نظريته إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاماً، في عام 1859. هذا التأخير الطويل كان مدفوعاً بمزيج من الحذر العلمي، والخوف من ردة الفعل الاجتماعية والدينية العنيفة، ورغبته في بناء قضية لا يمكن دحضها، مدعومة بكم هائل من الأدلة. خلال هذه الفترة، قام بتدوين موجز لنظريته في عام 1842، ثم توسع فيه في مقال أطول عام 1844، ولم يشاركه إلا مع عدد قليل من أصدقائه المقربين، مثل الجيولوجي تشارلز لايل وعالم النبات جوزيف هوكر.46
جاء الدافع النهائي للنشر بشكل مفاجئ في عام 1858، عندما تلقى داروين رسالة من عالم الطبيعة الشاب ألفريد راسل والاس، الذي كان يعمل في أرخبيل الملايو. تضمنت الرسالة مقالاً يصف نظرية تطور неотличима تقريباً عن نظرية داروين، والتي توصل إليها والاس بشكل مستقل تماماً.1 كان هذا بمثابة صدمة لداروين، الذي رأى أن أسبقيته في اكتشاف عمل حياته على وشك أن تضيع. بتشجيع من لايل وهوكر، تم التوصل إلى حل وسط نبيل: تم تقديم أعمال داروين ووالاس بشكل مشترك في اجتماع لجمعية لينيان في لندن. بعد ذلك، سارع داروين لإكمال “موجز” لكتابه الضخم الذي كان يعمل عليه، ونشره في نوفمبر 1859 تحت عنوان “في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي”. لقد كانت اللحظة التي خرجت فيها الأفكار التي ولدت من رحلة داروين على سفينة البيغل إلى النور أخيراً لتغير العالم.1
القسم السابع: الخاتمة: الإرث الخالد لرحلة البيغل
7.1 التحول الشخصي والمهني
كانت رحلة داروين على سفينة البيغل أكثر من مجرد رحلة استكشافية؛ لقد كانت رحلة تحول شخصي عميق. انطلق داروين شاباً في الثانية والعشرين من عمره، بلا هدف مهني واضح، وعاد بعد خمس سنوات رجلاً ناضجاً، وعالم طبيعة متمرساً، ومفكراً واثقاً من قدراته.50 لقد منحته الرحلة استقلالاً فكرياً وشجاعة لتحدي الأفكار السائدة. عند عودته، لم يعد ذلك الشاب الذي كان على وشك أن يصبح قساً في قرية ريفية، بل أصبح شخصية مرموقة في الأوساط العلمية في لندن.44 كتابه “يوميات أبحاث” (المعروف شعبياً باسم “رحلة البيغل”) حقق نجاحاً كبيراً، وأكسبه شهرة واسعة ككاتب ومراقب دقيق للطبيعة.17 لقد حددت هذه الرحلة، كما اعترف هو نفسه، “مسار حياته المهنية بالكامل”، وحولته من هاوٍ إلى أحد أكثر العلماء تأثيراً في التاريخ.50
7.2 الثورة العلمية
يكمن الإرث الأعظم لـ رحلة داروين على سفينة البيغل في أنها وضعت الأسس التجريبية والنظرية لواحدة من أكبر الثورات في تاريخ الفكر البشري. لقد قدمت الأدلة التي جمعها داروين من الحفريات في باتاغونيا، والتنوع البيولوجي في غالاباغوس، والتوزيع الجغرافي للأنواع في أستراليا، أساساً متيناً لنظريته في التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي.52 يمكن النظر إلى هذه الثورة على أنها استكمال للثورة الكوبرنيكية؛ فكما أزاح كوبرنيكوس الأرض من مركز الكون، أزاح داروين البشرية من مكانتها البيولوجية المتعالية والمخلوقة بشكل خاص، ووضعها بقوة ضمن التاريخ الطبيعي للحياة، كجزء من شجرة تطورية عظيمة تشمل جميع الكائنات.54 لقد كان هذا تحولاً جذرياً في فهمنا لمكانتنا في العالم.
الأهم من ذلك، أن الرحلة وما نتج عنها من أفكار نقلت دراسة أصل الكائنات وتكيفها من عالم التكهنات الميتافيزيقية والتفسيرات الخارقة للطبيعة (التصميم الإلهي) إلى عالم العلم التجريبي والتفسيرات الطبيعية (القوانين الطبيعية).54 لم يعد التكيف المذهل للكائنات الحية دليلاً على وجود مصمم، بل أصبح نتيجة لعملية طبيعية عمياء وغير موجهة هي الانتقاء الطبيعي. لقد كانت رحلة داروين على سفينة البيغل هي التي فتحت الباب أمام دراسة الحياة نفسها كظاهرة تاريخية تخضع لقوانين يمكن فهمها واختبارها.
7.3 التأثير الدائم على العلم والمجتمع
يمتد تأثير رحلة داروين على سفينة البيغل إلى يومنا هذا، حيث أصبحت نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي هي المبدأ الموحد لجميع علوم الحياة، من علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية إلى علم البيئة والطب.48 لا يمكن فهم أي جانب من جوانب البيولوجيا الحديثة فهماً كاملاً دون الرجوع إلى الإطار التطوري الذي بناه داروين على أساس ملاحظاته التي بدأت في تلك الرحلة.
على الصعيد المجتمعي، أثارت أفكار داروين جدلاً واسعاً ومستمراً، حيث تحدت المعتقدات الدينية والاجتماعية الراسخة حول أصل الإنسان ومكانته.1 ورغم أن أفكاره أسيء استخدامها في بعض الأحيان لتبرير أيديولوجيات مثل الداروينية الاجتماعية وعلم تحسين النسل، إلا أن جوهر مساهمته كان تحرير الفكر البشري من النظرة الثابتة والجامدة للعالم.53 في نهاية المطاف، لم تكن رحلة داروين على سفينة البيغل مجرد رحلة حول العالم استمرت خمس سنوات؛ لقد كانت رحلة إلى أعماق الزمن، وإلى نسيج الحياة ذاته، رحلة لا تزال أصداء اكتشافاتها تتردد في كل جانب من جوانب فهمنا للعالم الطبيعي ولأنفسنا.
المراجع
- Darwin and His Theory of Evolution | Pew Research Center, , https://www.pewresearch.org/religion/2009/02/04/darwin-and-his-theory-of-evolution/
- www.pewresearch.org, , https://www.pewresearch.org/religion/2009/02/04/darwin-and-his-theory-of-evolution/#:~:text=Before%20Darwin%2C%20the%20prevailing%20scientific,without%20mention%20of%20subsequent%20alteration.
- Chapter 14 – Evolution Before Darwin – History of Applied Science & Technology, , https://press.rebus.community/historyoftech/chapter/evolution-before-darwin/
- History of evolutionary thought – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_evolutionary_thought
- Evolutionary Thought Before Darwin – Stanford Encyclopedia of Philosophy, , https://plato.stanford.edu/entries/evolution-before-darwin/
- Charles Darwin – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Charles_Darwin
- Charles Darwin | Biography, Education, Books, Theory of Evolution …, , https://www.britannica.com/biography/Charles-Darwin
- Darwin’s Early Life — New England Complex Systems Institute, , https://necsi.edu/darwins-early-life
- Childhood – Darwin, , https://darwin200.christs.cam.ac.uk/childhood
- necsi.edu, , https://necsi.edu/darwins-early-life#:~:text=For%20Darwin’s%20first%20few%20years,rather%20below%20the%20common%20intelligence.%22
- Charles Darwin: History’s most famous biologist, , https://www.nhm.ac.uk/discover/charles-darwin-most-famous-biologist.html
- The Voyage of the Beagle | Darwin Correspondence Project, , https://www.darwinproject.ac.uk/voyage-beagle
- Voyage of HMS Beagle – Darwin Correspondence Project |, , https://www.darwinproject.ac.uk/commentary/voyage-hms-beagle
- hmsbeagleproject.org.uk, , https://hmsbeagleproject.org.uk/the-timeline/hms-beagles-second-voyage/#:~:text=The%20voyage%20was%20tasked%20with,carried%2022%20chronometers%20on%20board.
- HMS BEAGLE’S SECOND VOYAGE – HMS Beagle, , https://hmsbeagleproject.org.uk/the-timeline/hms-beagles-second-voyage/
- What was Charles Darwin’s reason for joining the HMS Beagle and what was his goal as a natural history explorer? Did he have a specific agenda or purpose for the voyage? – Quora, , https://www.quora.com/What-was-Charles-Darwins-reason-for-joining-the-HMS-Beagle-and-what-was-his-goal-as-a-natural-history-explorer-Did-he-have-a-specific-agenda-or-purpose-for-the-voyage
- Second voyage of HMS Beagle – Jha’s Educational Services, , https://www.jhasedu.com/blog/tgi-sunday
- Darwin’s Experiences in Australia, , https://www.nma.gov.au/audio/charles-darwin-series/transcripts/darwins-experiences-in-australia
- The Voyage of the Beagle by Charles Darwin | Summary & Analysis – Study.com, , https://study.com/academy/lesson/the-voyage-of-the-beagle-summary.html
- The Voyage of the Beagle by Charles Darwin | Research Starters – EBSCO, , https://www.ebsco.com/research-starters/literature-and-writing/voyage-beagle-charles-darwin
- The Voyage of the Beagle – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/The_Voyage_of_the_Beagle
- The VOYAGE of the BEAGLE by Charles Darwin,, , https://mathcs.holycross.edu/~little/Mont201516/VoyageBeagle.pdf
- The geology of the Beagle voyage | Darwin Correspondence Project, , https://www.darwinproject.ac.uk/commentary/geology/geology-beagle-voyage
- Rewriting the Book of Nature – Darwin and the Beagle Voyage – National Library of Medicine, , https://www.nlm.nih.gov/exhibition/darwin/beagle.html
- Geology | Darwin Correspondence Project, , https://www.darwinproject.ac.uk/commentary/geology
- Museum highlights: Charles Darwin, , https://www.nhm.ac.uk/discover/museum-highlights-charles-darwin.html
- Charles Darwin and the Voyage of the Beagle – Interactive Map, , https://charles-darwin-beagle.webflow.io/
- Charles Darwin’s five-year journey [timeline] | OUPblog, , https://blog.oup.com/2020/07/charles-darwins-five-year-journey-timeline/
- Darwin and Latin America (1831-1900), , https://sites.usnh.edu/hoslac/darwin-and-latin-america-1831-1900/
- THE FOSSIL MAMMALS COLLECTED BY CHARLES DARWIN IN SOUTH AMERICA DURING HIS TRAVELS ON BOARD THE HMS BEAGLE – Open Journal Systems, , https://revista.geologica.org.ar/raga/article/download/1339/1310/4651
- The giant fossil mammals that inspired Charles Darwin’s theory of …, , https://www.nhm.ac.uk/discover/news/2018/april/giant-fossil-mammals-inspired-charles-darwin-theory-evolution.html
- Darwin’s South American horse puzzle – Natural History Museum, , https://www.nhm.ac.uk/our-science/services/collections/digital/programme/darwins-south-american-horse-puzzle.html
- charles darwin & the galapagos islands – GoGalapagos, , https://gogalapagos.com/charles-darwin-galapagos/
- Galapagos – New England Complex Systems Institute, , https://necsi.edu/galapagos
- Charles Darwin – The Origin of Species | Galapagos Islands, , https://www.galapagosislands.com/info/history/charles-darwin.html
- Charles Darwin’s evidence for evolution (article) – Khan Academy, , https://www.khanacademy.org/partner-content/amnh/human-evolutio/x1dd6613c:evolution-by-natural-selection/a/charles-darwins-evidence-for-evolution
- Darwin’s finches – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Darwin%27s_finches
- Theory of Evolution | CK-12 Foundation, , https://flexbooks.ck12.org/cbook/ck-12-middle-school-life-science-2.0/section/4.1/primary/lesson/theory-of-evolution-by-natural-selection-ms-ls/
- The Voyage of the Beagle – Advanced | CK-12 Foundation, , https://flexbooks.ck12.org/cbook/ck-12-advanced-biology/section/10.17/primary/lesson/the-voyage-of-the-beagle-advanced-bio-adv/
- Evolution: Darwin: Darwin’s Diary – PBS, , https://www.pbs.org/wgbh/evolution/darwin/diary/1836.html
- Charles Darwin and the antlion – The Australian Museum, , https://australian.museum/learn/teachers/learning/darwin-antlion/
- The Cocos (Keeling) Islands, and what coral reefs can tell us about changes of sea level, , https://serc.carleton.edu/vignettes/collection/35374.html
- Charles Darwin’s coral conundrum | Natural History Museum, , https://www.nhm.ac.uk/discover/charles-darwin-coral-conundrum.html
- Charles Darwin – Evolution, Natural Selection, Beagle Voyage | Britannica, , https://www.britannica.com/biography/Charles-Darwin/The-Beagle-voyage
- www.pewresearch.org, , https://www.pewresearch.org/religion/2009/02/04/darwin-and-his-theory-of-evolution/#:~:text=After%20the%20Beagle%20returned%20to,of%20evolution%20through%20natural%20selection.
- Darwin Manuscripts, , https://cudl.lib.cam.ac.uk/collections/darwin_mss
- Darwin’s Other Books: “Red” and “Transmutation” Notebooks, “Sketch,” “Essay,” and Natural Selection – PMC, , https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC1283389/
- On the Origin of Species – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/On_the_Origin_of_Species
- A Timeline of the Life of Charles Darwin | Christs College Cambridge, , https://www.christs.cam.ac.uk/timeline-life-charles-darwin
- Darwin the Young Adventurer | National Endowment for the …, , https://www.neh.gov/humanities/2009/mayjune/feature/darwin-the-young-adventurer
- Becoming Charles Darwin: Travel Experiences, Personal Writings, and the Genesis of a Method – OpenEdition Journals, , https://journals.openedition.org/cve/14350
- www.britannica.com, , https://www.britannica.com/topic/Beagle-ship#:~:text=Beagle%2C%20British%20naval%20vessel%20aboard,of%20evolution%20by%20natural%20selection.
- Darwin’s Voyage, HMS Beagle & Ship’s History – Britannica, , https://www.britannica.com/topic/Beagle-ship
- Darwin’s greatest discovery: Design without designer – PMC – PubMed Central, , https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC1876431/
- pmc.ncbi.nlm.nih.gov, , https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC1876431/#:~:text=With%20Darwin’s%20discovery%20of%20natural,recourse%20to%20an%20Intelligent%20Designer.
- The Beagle’s Biological Voyage Continued | Computation Institute – UChicago Voices, , https://voices.uchicago.edu/compinst/blog/beagles-biological-voyage-continued/
- Second voyage of HMS Beagle – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Second_voyage_of_HMS_Beagle
- Darwin’s itinerary on the voyage of the Beagle, , https://darwin-online.org.uk/converted/Ancillary/Rookmaaker_Beagle_Itinerary_A575.html
- Geological Observations on South America – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Geological_Observations_on_South_America
- Timeline of the Voyage of the Beagle – Central/Southern Tier RAEN, , https://www.centralsoutherntierraen.org/wp-content/uploads/2022/10/timelineofthevoyageofthebeagle.pdf