ملخص لفلسفة سارتر

 

يقدم هذا التقرير ملخص لفلسفة سارتر، متتبعًا مسارها الفكري الذي نشأ في حقبة تاريخية عصيبة، وتحديدًا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.1 كانت هذه المرحلة تتسم بانهيار القيم والمؤسسات التي طالما وفرت للإنسان إحساسًا بالاستقرار والمعنى. ففي عصر ما بعد التنوير، الذي كان يعلي من شأن العقل المطلق، وجد الإنسان نفسه فجأة أمام واقع مليء بالانهيارات النفسية والإحباطات التي جعلته يفقد إيمانه بالمسلمات العقلية التي كان يعتقد أنها مركز فهم العالم.1 وفي خضم هذه الأزمة، جاءت فلسفة جان بول سارتر كرد فعل عميق، حيث حولت محور البحث الفلسفي من القوى الخارجية أو الماهيات المسبقة إلى “أعماق الإنسان وعاطفته للكشف عن الوجود ومعناه”.1

تبرز أهمية ملخص لفلسفة سارتر أيضًا من خلال مكانة سارتر كأحد أبرز فلاسفة القرن العشرين، وشعبيته التي تجاوزت الأوساط الأكاديمية الضيقة.4 فقد أصبحت الوجودية، بفضل أفكاره وأعماله الأدبية، “موضة” ثقافية في فرنسا وأوروبا في الستينيات والسبعينيات، وانتشرت كالنار في الهشيم بين المثقفين، والفنانين، وفي المقاهي الباريسية.1 لقد كان لغته يسيرة وحية، ما جعل منه “نجم البوب للفلسفة” 4، مما ساهم في انتشار أفكاره على نطاق واسع، وأدخل مصطلحاته إلى الحوارات اليومية. ومع ذلك، فإن هذا الانتشار الواسع كان يحمل في طياته تناقضًا جوهريًا؛ فبقدر ما انتشرت الوجودية، بقدر ما تعرضت لسوء فهم عميق، مما دفع سارتر نفسه إلى إلقاء محاضرته الشهيرة “الوجودية مذهب إنساني” للدفاع عنها وتوضيح أن “الكثير ممن ادعوا الوجودية لا يمثلونها بشكل صحيح”.1 وهذا التناقض بين عمق الفكر وانتشاره السطحي يمثل توترًا مستمرًا بين الجوهر الفلسفي العميق والشكل الذي تتبناه الأفكار عندما تصبح جزءًا من الثقافة الشعبية.

المحور الأول: الوجود يسبق الماهية.. حجر الزاوية في ملخص لفلسفة سارتر

يشكل مبدأ “الوجود يسبق الماهية” حجر الزاوية في ملخص لفلسفة سارتر، وهو المفهوم الذي يميز فلسفته الوجودية عن الفلسفات التقليدية، وخاصة الماهوية (essentialism).6 يعني هذا المبدأ أن الإنسان يوجد أولًا في العالم كوجود مجرد، “بلا تعريف محدد”.7 وبعد وجوده، يبدأ في تحديد ماهيته، أي جوهر وجوده، من خلال الأفعال والاختيارات التي يقوم بها.4

لتوضيح هذا المفهوم، يقارن سارتر بين الإنسان والشيء المصنوع. فعندما يصنع الحرفي أداة مثل “فتاحة الرسائل”، فإنه يبدأ بفكرة مسبقة عن ماهيتها (جوهرها) وغايتها.8 هذه الماهية تسبق وجودها المادي وتحدد شكله ووظيفته. أما الإنسان، فالأمر يختلف تمامًا؛ لأنه إذا لم يكن هناك إله خالق، فلا توجد “طبيعة إنسانية ثابتة” يولد بها الفرد.1 بل “يوجد قبل أن يُعرَّف بمفهوم ما”، ليصبح ما “يصنعه لنفسه” عبر حياته.4 وهذا التمييز الجذري يضع مسؤولية خلق الذات على عاتق الإنسان نفسه.

ويعزز هذا المبدأ من خلال مفهومين أنطولوجيين أساسيين: “الوجود في ذاته” و”الوجود لذاته”.10 “الوجود في ذاته” (En-Soi) يمثل وجود الأشياء الجامدة أو الأشياء التي ليس لها وعي، وهو وجود ثابت، سلبي، وغير واعٍ.10 أما “الوجود لذاته” (Pour-Soi)، فيمثل وجود الإنسان الواعي الذي لا يمكن أن يتطابق مع نفسه تمامًا. إنه وجود في حالة فعل وحركة وتجاوز مستمر، يمثل “الوعي الموجه إلى الخارج نحو العالم”.10 إن الوجود لذاته هو “نقص” أو “ثغرة” في الوجود العام، وهذا النقص هو الذي يمنحه القدرة على التجاوز والانطلاق نحو المستقبل.6

للإطلاع على ملخص لفلسفة زيجمونت بومان

إن مقولة سارتر بأن “الإنسان مشروع دائم” 6 تعني أن ماهية الإنسان ليست شيئًا مكتملًا، بل هي صيرورة مستمرة لا تنتهي إلا بالموت.6 هذا يعني أن ماهية الإنسان لا تتحدد في لحظة معينة، بل هي تتشكل باستمرار بفعل خياراته، ويكتمل تعريفها فقط عندما تتوقف هذه الخيارات تمامًا، أي عند وفاته. ولهذا السبب، يرى سارتر أن المستقبل هو “اللحظة الجوهرية في وجوده” 6، لأنه هو الفضاء الذي يخلق فيه الإنسان نفسه باستمرار. إن إنكار سارتر لوجود طبيعة إنسانية مسبقة ليس مجرد فكرة نظرية، بل هو الأساس الذي بنى عليه فلسفته في الحرية. فغياب ماهية مسبقة يعني غياب أي “قدر” أو “قوة خارجية” تحدد مصير الفرد.13 فما دام لا توجد طبيعة إنسانية ثابتة، فإنه لا توجد غاية أو هدف محدد مسبقًا، وبالتالي فإن الإنسان يمتلك حرية مطلقة في تحديد غايته وخلق قيمته.

المحور الثاني: الحرية والمسؤولية.. الإنسان المحكوم عليه في ملخص لفلسفة سارتر

في جوهر ملخص لفلسفة سارتر، تقع مفاهيم الحرية والمسؤولية كوجهين لعملة واحدة. يرى سارتر أن الإنسان “محكوم عليه بالحرية”.16 هذه الحرية ليست نعمة يمتلكها الفرد، بل هي قدره الذي لا يستطيع الهروب منه. فبمجرد إلقائه في العالم، يصبح مسؤولًا عن كل ما يفعله، لأنه لم يخلق نفسه ولم يجد أي أعذار مسبقة تحدد أفعاله.16 ولهذا السبب، حتى “عدم الاختيار هو اختيار أيضاً”.5 إن الحرية عنده هي “ذلك اللاوجود” الذي يفصل الإنسان دائمًا عن ماهيته، وهي التي تجعل منه كائنًا متجاوزًا لذاته.6

هذه الحرية المطلقة، بدورها، تفرض على الفرد مسؤولية هائلة. فمسؤولية الإنسان ليست مقتصرة على أفعاله الفردية، بل تمتد لتشمل الإنسانية بأسرها.5 عندما يختار الإنسان لنفسه شيئًا، فإنه بذلك يصيغ صورة الإنسان التي يجب أن يكون عليها، وبالتالي “يجب أن يكون مقتنعاً بأن ما يختاره لا يمكن أن يكون سيئاً له، لأنه يجب أن يكون جيداً للجميع”.8 هذه المسؤولية “أكبر مما نظن”، لأنها تتجاوز الفردية لتشمل مصير البشرية جمعاء.5 ويذهب سارتر إلى أبعد من ذلك، رافضًا أي محاولة للتملص من المسؤولية بحجة الانفعالات أو الدوافع الخارجية، فهو يعتبر الإنسان “مسؤولاً حتى عن انفعاله”.16

إن هذا التركيز على الاختيار كجوهر للوجود يمثل تطورًا جوهريًا في الفلسفة. فإذا كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت قد أسس الوجود على التفكير بقوله: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، فإن سارتر يذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، مؤكدًا أن الوجود في عمقه ليس حالة ذهنية ساكنة، بل هو “فعل اختيار”.16 هذا التحول من التفكير إلى الاختيار يعني أن الإنسان لا يوجد بمجرد وعيه، بل بفعله المتجاوز للذات، وأن وجوده هو صيرورة مستمرة لا تتوقف. إن إدراك الإنسان لحريته المطلقة لا يأتي بسهولة، بل يرافقه شعور ثقيل بالقلق. يصف سارتر القلق بأنه “إدراك بالحرية بنفسها” 18، وهو ليس شعورًا سلبيًا يؤدي إلى الاستكانة، بل هو “الشرط الأسمى للحرية” 5 و”الذي ينهض بالعمل”.19 فالقلق يولد من إدراك الفرد أنه هو المسؤول الوحيد عن نفسه وعن الإنسانية، وهذا الثقل هو الذي يدفعه إلى الفعل وخلق المعنى في حياة لا تقدم له أي ضمانات.

للإطلاع على ملخص لفلسفة جورج باطاي

المحور الثالث: الوجود والعدم.. حالات الشعور في ملخص لفلسفة سارتر

في كتاب “الوجود والعدم”، يغوص سارتر في أعماق الوعي البشري ليكشف عن حالاته الأساسية المرتبطة بوجوده.12 يرى سارتر أن العدم ليس مجرد غياب، بل هو جزء أصيل من الوجود الإنساني. الإنسان هو “الوجود الذي عبره يأتي العدم إلى الأشياء”.20 فالعدم هو “اللاوجود” الذي يفصل الإنسان دائمًا عن ماهيته، وهو ما يمنحه الحرية المطلقة.6 إن الوعي البشري ليس كتلة صلبة، بل هو “نقص في الوجود” 12، وهذا النقص (العدم) هو الذي يمنح الوعي القدرة على التجاوز والانطلاق نحو المستقبل لخلق ماهيته الخاصة.6

وفي سعيه للهروب من هذا العدم ومن الحرية الهائلة التي يفرضها، يلجأ الإنسان إلى ما يسميه سارتر “سوء النية” (Bad Faith). سوء النية هو “خداع الذات” 2، وهو محاولة الإنسان لإنكار حريته ومسؤوليته من خلال التظاهر بأنه مقيد أو مجبور.21 يوضح سارتر هذا المفهوم بمثال شهير في كتابه “الوجود والعدم”، وهو “النادل”.22 النادل الذي يحاول أن يكون نادلًا بشكل كامل، كـ”شيء” ثابت ومحدد (في ذاته)، بدلاً من أن يكون إنسانًا واعيًا يختار بوعي أن يمارس دور النادل. إن سوء النية ليس كذبًا عاديًا على الآخرين، بل هو كذب على الذات، حيث يختار الفرد بوعي أن يخدع نفسه بأنه غير حر، وهذا الخداع نفسه هو فعل إرادي يؤكد على الحرية التي يحاول الهروب منها.

ترافق هذه الحالات الوجودية مشاعر عميقة مثل “القلق” و”الغثيان”. القلق ليس مجرد شعور عابر، بل هو “شعور ناتج من كون الإنسان موجوداً في هذا العالم”.23 إنه يكشف عن “العدم بوصفه أساساً للوجود البشري ذاته”.18 إنه يظهر من إدراكنا لغياب أي ضمانات أو قيم مسبقة تحدد أفعالنا. ورغم أن القلق قد يبدو سلبياً، إلا أن سارتر يراه إيجابيًا 19، فهو ليس “الذي يؤدي إلى الاستكانة” بل “الذي ينهض بالعمل”.19 أما “الغثيان”، فهو حالة وجودية أخرى يعبر عنها سارتر في روايته الشهيرة، وهو شعور بالاشمئزاز من الوجود العبثي الذي لا معنى له خارج ما يخلقه الإنسان بنفسه.4 هذه الحالات الوجدانية ليست مجرد أمراض نفسية، بل هي كشوفات فلسفية عميقة عن طبيعة الوجود الإنساني.

المحور الرابع: الآخر والجحيم.. علاقة الأنا في ملخص لفلسفة سارتر

يُعد فهم علاقة الأنا بالآخر جزءًا أساسيًا من ملخص لفلسفة سارتر. يرى سارتر أن وجود “الغير” ضروري لوجود الأنا ووعيها بذاتها.24 فبمجرد أن ندرك وجود الآخر، نصبح واعين بوجودنا “كموضوع” في عيون الآخرين.11 هذه اللحظة يسميها سارتر “النظرة” (The Look) 11، وهي تحوّل الأنا من كائن حر وواع (لذاته) إلى شيء ثابت ومحدد (في ذاته).11 هذه النظرة تجبرنا على رؤية أنفسنا كما يرانا الآخر، وهذا الشعور بالغربة والتشيؤ هو ما يسبب حالة “الخجل”.25

من هنا، تأتي مقولة سارتر الشهيرة “الجحيم هو الآخر”.20 إن العلاقة بين الأنا والآخر غالبًا ما تكون “علاقة خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل” لأن كل طرف يعامل الآخر كـ”شيء”.24 فالآخر هو الجحيم ليس لأنه يسبب لنا الألم، بل لأنه يقيّد حريتنا في تعريف أنفسنا، ويحولنا من كينونة حرة ومتجاوزة إلى موضوع ثابت ومحدد. هذه الديناميكية تخلق صراعًا وجوديًا دائمًا بين الأنا والآخر.

ولكن فهم سارتر للذات الجماعية لم يكن ثابتًا. ففي أعماله المبكرة مثل “الوجود والعدم”، رفض سارتر أي وحدة حقيقية بين الأفراد، واعتبر الجماعة “وهمًا” وأن الانتماء إليها هو شعور بـ”الاستلاب الجذري”.20 هذا الموقف يرى أن الفردية هي الوحدة الأساسية الوحيدة في الوجود. ومع ذلك، يظهر من أعماله اللاحقة، مثل “نقد العقل الجدلي”، تحولًا في فكره. ففي هذا الكتاب، بدأ سارتر يميز بين “وحدة زائفة” تقوم على الاستلاب، و”وحدة حقيقية” تقوم على الحرية.20 هذا الانتقال في الفهم يدل على أن فلسفته لم تكن جامدة، بل كانت تتطور استجابةً للقضايا السياسية والاجتماعية التي شهدها عصره. فقد أدرك سارتر أن الفردية، وإن كانت جوهرية، لا يمكن أن توجد بمعزل عن الآخرين والمجتمع، وأن التحرر الحقيقي يتطلب عملًا جماعيًا يجمع بين الأفراد دون أن يلغي فرديتهم.

المحور الخامس: الالتزام والتحول.. الجانب السياسي في ملخص لفلسفة سارتر

لم يكتف سارتر بالتحليل الفردي، بل انتقل فكره من الفردية المفرطة في أعماله المبكرة إلى الالتزام السياسي النشط. بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح اهتمامه الأكبر هو كيفية “التقاء الحرية الفردية بالقوى التاريخية”.2 لقد آمن سارتر بضرورة “العمل الجماعي” للوقوف ضد الظلم 2، واعتبر أن “الحرية الحقيقية تعني النضال النشط ضد القوى القمعية”.2

ولتحقيق هذا الالتزام، حاول سارتر التوفيق بين الفلسفة الوجودية والأفكار الماركسية.2 في كتابه “نقد العقل الجدلي”، سعى إلى “إنقاذ الماركسية من الدوغمائية الكسولة” 26، مؤكدًا على أن الفرد يمتلك القدرة على “تغيير أوضاعه الاجتماعية”.2 وبينما كانت الماركسية التقليدية ترى الأفراد ككائنات محددة بوضعها الطبقي، أصر سارتر على أن الأفراد “يصنعون تاريخهم الخاص” 27، وأن “التحليل الطبقي يجب أن يُدمج مع التاريخ الشخصي”.26 لقد كان هذا دمجًا فريدًا يجمع بين الحرية الوجودية والجبر الاجتماعي، مما ميز فكره السياسي عن التيارات السائدة في عصره. ومع ذلك، اعترف سارتر لاحقًا أن الجمع بين الفكرتين مستحيل تمامًا، وقال: “لا يمكن أن يكون جزءاً من الماركسية، لأنها في النهاية فلسفة منفصلة”.27

كان سارتر معروفًا بمواقفه السياسية الحازمة. فقد انتقد الاستعمار الفرنسي 28 ودعم الثورة الجزائرية.24 كما تعاطف مع الفلسطينيين في مواجهتهم للاحتلال.29 ورغم تعاطفه، أثارت مواقفه جدلًا واسعًا في العالم العربي، حيث انتقد بعض المثقفين العرب موقفه من القضية الفلسطينية باعتباره “تأويلاً موجهاً” متأثرًا بـ”ظروف تاريخية وموضوعية غير مهيئين -تماما- لنسيانها”.29 وقد أدى هذا الجدل إلى حظر كتبه في بعض البلدان.29 وهذا يظهر أن إرث سارتر السياسي لم يكن خاليًا من التعقيدات والانتقادات، حتى من الفئات التي دعمها.

المحور السادس: الوجودية تحت المجهر.. الجدل النقدي حول ملخص لفلسفة سارتر

لم تكن فلسفة سارتر بمنأى عن النقد، فقد واجهت جدلاً فكريًا واسعًا من فلاسفة معاصرين، مما ساهم في تطويرها وتعميقها. من أبرز هؤلاء النقاد:

  • ألبير كامو: كان الصراع بين سارتر وكامو علنيًا ومحوريًا في المشهد الفكري الفرنسي.28 انتقد كامو سارتر على عدة مستويات: سياسيًا، عارض كامو موقف سارتر “العملي” من الستالينية، ورفض التنازل عن القيم المطلقة للعدالة من أجل المصلحة الحزبية، وشبه الشيوعية بالنازية.28 فلسفيًا، رفض كامو أن يوصف بأنه وجودي 28، معتبرًا أن فلسفة سارتر تفتقر إلى مفهوم “الحدود” أو “الماهية الإنسانية”. لقد كان هذا الخلاف حول الأيديولوجيات السياسية هو ما أنهى صداقتهما في نهاية المطاف.28
  • ميشيل فوكو: قدم فوكو نقدًا جذريًا لمفهوم سارتر عن “المثقف الكوني” أو “المثقف الملتزم” الذي يرى نفسه “ضمير الإنسانية”.31 يرى فوكو أن هذا المفهوم “مثالي ومفرط في العمومية”.31 وبدلًا من ذلك، دعا إلى “المثقف المتخصص” الذي يركز على قضايا جزئية ومحددة في مجال عمله، بعيدًا عن التنظير الشامل.31
  • موريس ميرلو بونتي: انتقد ميرلو بونتي الفصل الذي أقامه سارتر بين “الوعي” (لذاته) و”الجسد/العالم” (في ذاته).32 لقد رأى أن الإنسان “بنية سيكولوجية وتاريخية” وأن الوعي ليس شفافًا ومنفصلًا، بل هو “منخرط بأي حال في الواقع”.32 هذا النقد دفعه إلى مراجعة العلاقة بين الفرد والمجتمع بشكل أعمق، مما أثر في فكره اللاحق.

كما تعرضت فلسفة سارتر لانتقادات من فلاسفة عرب مثل صادق جلال العظم، الذي رأى أن الوجودية “فلسفة لليأس”.35 وانتقدها البعض الآخر بسبب “الفردية المفرطة” التي تتجاهل العوامل الاجتماعية والنفسية 36، واتُهمت برفض القيم الأخلاقية الثابتة، مما أدى إلى اتهامات بـ”الفوضى والانحلال الخلقي”.5

دافع سارتر عن فلسفته في كتابه “الوجودية مذهب إنساني”.3 أكد أن الوجودية هي فلسفة “أقل النظريات اتصالًا بالفضيحة” 3 وأنها “تفاؤل وتعليم للفعل”.8 كما أشار إلى أن الوجودية تقف “ضد كل صور النزاعات الاستبدادية”.3 هذه الانتقادات لم تكن مجرد هجمات، بل كانت بمثابة حوارات فلسفية عميقة دفعت سارتر إلى مراجعة وتطوير فكره. على سبيل المثال، نقد ميرلو بونتي حفّز سارتر على التفكير في العلاقة بين الفرد والمجتمع بشكل أعمق، مما أدى إلى كتابة “نقد العقل الجدلي”.20

لتوضيح هذا الجدل النقدي، يمكن تلخيصه في الجدول التالي:

الناقدمحور النقدرؤية سارتر المتأثرة
ألبير كاموسياسات سارتر الواقعية، غياب الماهية الإنسانيةإصرار سارتر على “الالتزام” و”العمل” السياسي، لكن الخلاف يظل قائماً.
ميشيل فوكومفهوم “المثقف الكوني” الشموليدفعه نحو التفكير في دور المثقف بعمق أكبر، والانتقال إلى قضايا جزئية.
موريس ميرلو بونتيالفصل بين الوعي والجسد/العالمدفعه إلى مراجعة العلاقة بين الفرد والمجتمع، مما أدى إلى “نقد العقل الجدلي”.
التيار الماركسيالفردية المفرطة وتجاهل الجبر الاقتصاديمحاولته لدمج الوجودية بالماركسية وتأكيد دور الفرد في صنع التاريخ.
التيار الدينيالإلحاد، غياب القيم الثابتةرده في “الوجودية مذهب إنساني” وتأكيده على أن الوجودية هي فلسفة أخلاقية وعمل.

الخاتمة: إرث سارتر.. أي تأثير لملخص لفلسفة سارتر في الفكر المعاصر؟

في نهاية هذا ملخص لفلسفة سارتر، يمكن تلخيص إرثه الفكري في النقاط الأساسية التي قام عليها: الوجود يسبق الماهية، الحرية المطلقة، المسؤولية الفردية والجماعية، والقلق ككاشف للحرية. لقد تجاوزت أفكار سارتر حدود الفلسفة لتشكل مصدر إلهام للعديد من الحركات الاجتماعية والثقافية.2 فقد أثرت دعوته إلى “العمل الجماعي والحرية الشخصية الحقيقية” في حركات الحقوق المدنية والحركات النسوية، وما زالت أفكاره حية حتى اليوم.2

يستمر الجدل حول سارتر، خاصة فيما يتعلق بعلاقته المعقدة بالماركسية ومواقفه السياسية. لكن جوهر إرثه لا يكمن في إجاباته النهائية، بل في الأسئلة التي طرحها. إن ملخص لفلسفة سارتر ليس مجرد مجموعة من الأفكار التاريخية، بل هو دعوة دائمة لكل فرد ليكون مسؤولًا عن وجوده، وأن يصنع قيمته ومعناه في عالم لا يقدم له أي ضمانات. إن إرث سارتر يكمن في إصراره على أن “الفلسفة والسياسة مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً. وهما مفتاح النضال من أجل حقوق الإنسان”.2 لقد ترك سارتر بصمة لا تمحى في الفكر الغربي، مؤكداً أن الإنسان، رغم وجوده المحكوم بالحرية والمسؤولية، يظل الكائن الوحيد القادر على خلق معنى في وجه العدم.

Works cited

  1. سارتر والإنسان المدان بالحرية – مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث, , https://www.mominoun.com/articles/%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-9542
  2. سارتر: الوجودي في العمل – دور الفلسفة في الخطاب السياسي – Editverse, , https://editverse.com/ar/jean-paul-sartre-existentialism-political-activism/
  3. النزعة الإنسانية في الفلسفة جان بول سارتر نموذجا, , https://repository.univ-msila.dz/bitstreams/c709efe5-32d9-42f7-b155-22b277db5b1e/download
  4. وجودية سارتر – ورشة مخ, , https://www.warshatmokh.com/post/philosophy101_sartre
  5. وجودية سارتر في الميزان.. ماذا تعني مقولة “الإنسان مدان بالحرية”؟ – عربي بوست, , https://arabicpost.net/opinions/opinion/2022/10/27/%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1/
  6. بين الماهوية والوجودية | وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس …, , https://www.hindawi.org/books/36161402/3/
  7. ما معنى الوجود يسبق الماهية؟ – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=ygelG_qBNY8
  8. الوجودية مذهب إنساني – ويكيبيديا, , https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9_%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8_%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A
  9. نقد كتاب الوجودية مذهب إنسانى لسارتر بقلم:رضا البطاوى – دنيا الرأي, , https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/460749.html
  10. العدم وتمظهراته الوجودية في الوعي عند سارتر – القدس العربي, , https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%85%D8%B8%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A-%D8%B9%D9%86%D8%AF/
  11. فلسفة التشيؤ: لماذا يتغير كل شيء عندما ينظر إلينا الناس؟ (مترجم) – المحطة, , https://elmahatta.com/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D8%A4-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%83%D9%84-%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D9%8A/
  12. فنومينولوجيا سارتر بين الوجود والعدم – كتابات, , https://kitabat.com/%D9%81%D9%86%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%85/
  13. ملخص لفلسفة سارتر – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=kLqsGw8IKXc
  14. تأملات في فلسفة سارتر Contemplations in Sartre’s philosophy | ASJP, , https://asjp.cerist.dz/en/article/273734
  15. ملخص كتاب الوجودية منزع إنساني | PDF – Scribd, , https://www.scribd.com/document/764423173/%D9%85%D9%84%D8%AE%D8%B5-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%B2%D8%B9-%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A
  16. الحرية والإنسان.. بين وجودية سارتر وفاعلية آلان تورين – الشرق الأوسط, , https://aawsat.com/home/article/423186/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1-%D9%88%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A2%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%86
  17. أهم الأفكار الواردة في الكتاب “الوجودية نزعة إنسانية” لجان بول سارتر – شبكة الأخبار الفلسطينية, , https://www.pn-news.net/?p=1354
  18. أزمة القلق الوجودي في الرواية الحديثة – ASJP, , https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/96/17/2/237962
  19. ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻱ ﻋﻨﺪ ﺳﺎﺭﺗﺮ, , https://fac.umc.edu.dz/fll/images/adabe14/asma%20benachour.pdf
  20. الفوضوية السياسية في … – مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث, , https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%88%D8%B6%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1-5553
  21. Jean-Paul Sartre’s bad and good examples of bad faith – ASJP – CERIST, , https://asjp.cerist.dz/en/article/60124
  22. حبطيش وعلي – سوء النية في سارتر, , https://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=747478
  23. القلق الوجودي عند سارتر – د. دعاء سعيفان – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=WQfftHQulPk
  24. علاقة الأنا و الأخر في فلسفة جون بول سارتر – ASJP – CERIST, , https://asjp.cerist.dz/en/article/66318
  25. علاقة الأنا و الأخر في فلسفة جون بول سارتر | PDF – Scribd, , https://www.scribd.com/document/559955088/%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%AC%D9%88%D9%86-%D8%A8%D9%88%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1
  26. Sartre’s Political Philosophy | Internet Encyclopedia of Philosophy, , https://iep.utm.edu/sartre-p/
  27. Sartre was not a Marxist – Columbia Law School Blogs, , https://blogs.law.columbia.edu/critique1313/files/2019/12/Sartre-was-not-a-Marxist-15585476-Sartre-Studies-International.pdf
  28. كامو وسارتر – الشِّقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان | ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدًّا | مؤسسة هنداوي, , https://www.hindawi.org/books/31607195/5/
  29. جان بول سارتر والوجودية العربية: الصدمة والقطيعة / ترجمة: سعيد بوخليط – مجلة حكمة, , https://hekmah.org/%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%88%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%85/
  30. حقيقة الصراع بين سارتر وكامو مع صورة نادرة تجمعهما – الاتحاد الديمقراطي العراقي, , https://www.idu.net/modblank.php?mod=news&modfile=print&itemid=28600
  31. المثقف بين سارتر وفوكو / The intellectual between Sartre and Foucault – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=kvUy0ypjJTM
  32. موريس ميرلو بونتي في مديح الفلسفة – صحيفة المثقف, , https://www.almothaqaf.com/qadaya/966492-%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%84%D9%88-%D8%A8%D9%88%D9%86%D8%AA%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9
  33. موريس مرلو بونتي والفينومينولوجيا – Philosophie et Management, , https://philoma.org/wp-content/uploads/docs/2011/phenomenologie.doc
  34. ميرلوبونتي والجسد عند إشكالية الفينومينولوجيا – ASJP, , https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/231/8/1/153431
  35. نماذج مختارة / فلسفة سارتر في الفكر العربي المعاصر Sartre’s Philosophy in Contemporary – An-Najah journals, , https://journals.najah.edu/media/journals/full_texts/5_omJgDNq.pdf
  36. أسهل شرح لنقد لنظرية فلسفة الوجودية عند سارتر – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=VCVHFDcd4pA
  37. نقد رؤية الفلسفة الـوجودية للإنسان والواقع الاجتماعي.. دراسة تحليلية – نقدية – تبيان, , https://tipyan.com/criticism-of-the-existential-philosophy-of-man/

Related Posts

رواية الجريمة والعقاب لدوستوفيسكي

تُعد رواية الجريمة والعقاب لدوستوفيسكي حجر الزاوية في صرح الأدب العالمي، وعملاً تأسيسياً في مجالي الرواية النفسية والفلسفة الوجودية. نُشرت هذه التحفة الأدبية لأول مرة بشكل مُسلسل في المجلة الأدبية…

رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي

تُعتبر رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي العمل الختامي والمتوّج لمسيرة فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي الأدبية والفكرية، وهي ليست مجرد رواية، بل هي خلاصة حياته الفكرية والروحية التي استغرق في الإعداد لها عمرًا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You Missed

رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي

  • 18 views
رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي

رواية الخيميائي لباولو كويلو

  • 15 views
رواية الخيميائي لباولو كويلو

ريفيو رواية عالم صوفي جوستاين غاردر

  • 20 views
ريفيو رواية عالم صوفي جوستاين غاردر

ما هي أفضل أنواع الروايات التي تستحق القراءة؟

  • 27 views
ما هي أفضل أنواع الروايات التي تستحق القراءة؟

تحليل رواية 1984 لجورج أورويل: استشراف الرعب الشمولي في عالمنا المعاصر

  • 305 views
تحليل رواية 1984 لجورج أورويل: استشراف الرعب الشمولي في عالمنا المعاصر
أهم الكتب في التاريخ