
إن الشروع في تقديم كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو يقتضي أولاً وقبل كل شيء الإقرار بالطبيعة الجذرية وغير التقليدية لمشروعه. هذا العمل ليس تاريخاً تقليدياً للطب النفسي، بل هو تحقيق فلسفي وتاريخي في الشروط ذاتها التي جعلت من علم كهذا أمراً ممكناً. يسعى فوكو إلى كتابة “أركيولوجيا ذلك الصمت” 1 الذي حلّ بين العقل والجنون في فجر العصر الحديث. فبدلاً من تتبع مسار تقدمي نحو الحقيقة، يحفر فوكو في طبقات المعرفة ليكشف عن الصدع التأسيسي الذي فصل الجنون عن العقل، محولاً إياه من تجربة اجتماعية وثقافية إلى موضوع للعلم والسيطرة.
1.1 تفكيك التأريخ التقليدي
يبدأ هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو بتمييز نهج فوكو عن التواريخ التقليدية للطب النفسي، التي عادة ما تروي قصة خطية للتقدم نحو معاملة أكثر إنسانية وعلمية للمرضى العقليين.2 يقدم عمل فوكو “تاريخاً مضاداً” يتحدى هذه السردية المنتصرة، مجادلاً بأن المعاملة الحديثة للمرضى العقليين أصبحت قمعية ومُسيئة بشكل متزايد.2 إنه يرفض السرد والتحليل التقليديين لصالح فهم تخيلي، رمزي، وحدسي للجنون في التاريخ، مما يخلق ما يصفه بعض الباحثين بأنه “تاريخ مضاد” أو “صناعة أسطورية” (mythopoeia).2 يهدف هذا المنهج إلى التقاط حقيقة “محسوسة، مؤسسة، ومُعاشة” بدلاً من مجرد التحقق منها تجريبياً، وذلك عبر استخدام صور حية وأحداث أسطورية وإعادة تمثيل رمزية.2
للإطلاع على ملخص فلسفة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو
1.2 المنهج الأركيولوجي: التنقيب عن الإبستيميه (Episteme)
في صميم هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو، يكمن تعريف منهجه “الأركيولوجي” كأداة تأسيسية لهذا العمل المبكر. تُقدَّم الأركيولوجيا على أنها دراسة “مقطعية” للحظة تاريخية، تفحص المصنوعات المعرفية المتزامنة (في اللغويات، الاقتصاد، والعلوم) للكشف عن القواعد الكامنة للخطاب.4 يتم تقديم مفهوم “الإبستيميه” (episteme) باعتباره “نظام المعرفة في زمن معين” 4 أو “مجموع العلاقات التي توحد، في فترة معينة، الممارسات الخطابية”.5 تحدد هذه الإبستيميه شروط إمكانية ما يمكن التفكير فيه وقوله، وتفصل ما يعتبر علمياً عما لا يعتبر كذلك.4 وهكذا، يُظهر المنهج الأركيولوجي نفسه كأداة لتحليل خطاب الجنون داخل أرشيفات الطب النفسي والطب، كاشفاً كيف شيدت هذه الخطابات “المريض العقلي” كشخص “غير طبيعي”.6
إن ضرورة هذا المنهج ليست مجرد خيار أسلوبي، بل هي ضرورة فلسفية. فكتابة تاريخ الانقسام بين العقل والجنون من منظور العقل نفسه يعني تكرار الإقصاء ذاته الذي ينتقده فوكو. لذا، يحاول المنهج الأركيولوجي العمل على مستوى “الأرشيف” 6، على المستوى اللاواعي لفكر ثقافة ما 7، لوصف بنية الانقسام نفسه دون افتراض شرعية انتصار العقل. هذا يسمح له بتحليل شروط الفصل بدلاً من محتوى الجنون، متجنباً بذلك “خدعة العقل النهائية” 9 التي كانت ستستوعب الجنون ببساطة في سرديتها الخاصة.
1.3 من الأركيولوجيا إلى الجينيالوجيا: بذور السلطة/المعرفة
على الرغم من أن تاريخ الجنون هو في الأساس عمل أركيولوجي 5، إلا أنه يحتوي على بذور منهج فوكو الجينيالوجي اللاحق. يوضح التحليل أنه بينما تكشف الأركيولوجيا عن
قواعد الخطاب، فإن الجينيالوجيا تبحث في كيفية ارتباط هذه الخطابات بممارسة السلطة.6 إن التحليل العميق في الكتاب لكيفية عكس التعريفات المتغيرة للجنون لصراعات على السلطة والإقصاء والسيطرة الاجتماعية 11 هو صياغة مبكرة لصلة السلطة/المعرفة التي ستصبح محورية في أعمال فوكو اللاحقة. إن هذا الربط المبكر بين المعرفة والسلطة هو ما يجعل هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو يعتبره عملاً محورياً في مسار فوكو الفكري.
من خلال إظهار أن العصور السابقة كانت لديها طرق مختلفة جذرياً، ولكن متماسكة، لفهم الجنون 8، يقوم عمل فوكو بنقد قوي للحاضر. إنه يقلب السؤال الكانطي، سائلاً “ما الذي قد يكون عرضياً في ما يبدو ضرورياً؟”.8 الدلالة عميقة: فهمنا الحديث “العلمي” للمرض العقلي ليس حقيقة حتمية، بل هو بناء تاريخي عرضي، ولد من التزامات اجتماعية وأخلاقية وسياسية محددة.8 وهذا يفتح الباب أمام التشكيك في سلطته ومقاومتها.
القسم الثاني: حوار عصر النهضة: الجنون طليقاً
يحلل هذا القسم تصوير فوكو للعصر ما قبل الكلاسيكي، وهو زمن لم يكن فيه الجنون قد أُخرس بعد، بل كان موجوداً في حوار مرئي، وغالباً ما كان يُحتفى به، وأحياناً يكون مرعباً، مع العقل. يركز هذا الجزء من كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو على الشخصيات الرمزية الرئيسية والتمثيلات الثقافية التي يستدمها فوكو لبناء “صناعته الأسطورية” لهذه الفترة.
2.1 من الأبرص إلى المجنون: شخصية جديدة للإقصا
يفتتح هذا القسم بتحليل صورة فوكو القوية لاختفاء الجذام من العالم الغربي في نهاية العصور الوسطى، تاركاً وراءه فراغاً بنيوياً من الإقصاء — مستعمرات الجذام الفارغة وطقوس العزل.2 يجادل فوكو بأن المجنون يأتي ليحتل هذا الفضاء الشاغر، ليصبح “الأبرص الأخلاقي” الجديد.2 يمثل هذا الانتقال تحولاً حاسماً في الوعي الغربي من الاهتمام بالجسد المريض إلى الانشغال بالسلوك غير الطبيعي والعقل المريض.1
2.2 سفينة الحمقى (Narrenschiff): رمز متحرك
تُقدَّم “سفينة الحمقى” كرمز مركزي ومنظم لهذه الحقبة. يحلل هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو المفهوم بكامل تعقيده:
- كصورة أدبية وفنية: كانت Narrenschiff أداة أدبية قوية، نشأت مع كتاب سيباستيان برانت عام 1494، وشبعت فن وأدب ذلك الوقت.16 يستخدم فوكو لوحة هيرونيموس بوش الشهيرة لتوضيح عالم يختلط فيه الحمق بالعقل.18
- كممارسة تاريخية متنازع عليها: يدعي فوكو أن هذه السفن كان لها “وجود حقيقي”، حيث كانت وسيلة للمدن لطرد مجانينها، وتكليف البحارة بهم في طقس من الإقصاء والحجز المتزامنين.13 هذا الادعاء هو نقطة خلاف رئيسية بين المؤرخين، الذين يجادلون بأن الأدلة ضعيفة وأن فوكو يرفع استعارة إلى مستوى ممارسة حرفية.16
- كرمز للحدّية (Liminality): يوجد المجنون على السفينة في حالة حدّية — سجين على متن السفينة ولكنه حر في عرض البحر، عالق بين عالمين.17 الرحلة هي “عبور مطلق”، تسلم المجنون إلى مصير مجهول وتطهر المجتمع الذي يتركه وراءه.17
إن عصر النهضة عند فوكو هو فترة يتداول فيها الجنون بحرية، جسدياً (بالطرد) ورمزياً (في الفن والأدب). هذه الحالة “غير الراسية” 16 تسمح بوجود حوار. لم يتم بعد عزل العقل واللاعقل في مؤسسات؛ إنهما يتواجهان في الساحة العامة، على المسرح، وعلى القماش. هذا الحوار، على الرغم من كونه مشحوناً بالخوف والافتتان، هو بالضبط ما سيسعى العصر الكلاسيكي إلى القضاء عليه. سفينة الحمقى هي الرمز المثالي لهذه الحالة ما قبل المؤسسية: إنها تزيل المجنون ولكنها لا تثبته في فضاء ثابت قابل للملاحظة.
للإطلاع على ملخص لفلسفة إميل دوركايم
2.3 الجنون كمعرفة مأساوية في الفن والأدب
يجادل فوكو بأن جنون عصر النهضة لم يُنظر إليه على أنه مجرد غياب للعقل. بدلاً من ذلك، كان يُنظر إليه كشكل من أشكال المعرفة المظلمة والبديلة — حكمة مرتبطة بالحدود المأساوية للعالم ونهاية الزمان.1 يستكشف هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو استخدام فوكو لشخصيات أدبية مثل الملك لير لشكسبير ودون كيخوتي لسيرفانتس. في هذه الأعمال، يمثل الجنون “حداً أقصى”، شغفاً يائساً، ورغم أنه مدمر للإنسانية، فإنه يكشف أيضاً عن حقيقة عميقة حول العالم لا يستطيع العقل الوصول إليها.16 تُستخدم التمثيلات الفنية لبوش وبروغيل لإظهار عالم مسكون بالحيوانات الخيالية والأشكال الوحشية، كاشفة عن طبيعة الإنسان الخفية والأكثر قتامة والانتصار المروع للجنون.16
إن اعتماد فوكو الكبير على الفن والأدب ليس مجرد توضيح، بل هو جزء أساسي من منهجه الأركيولوجي. فهو يجادل بأنه قبل أن يتم تدوين الجنون بواسطة خطاب علمي (الطب النفسي)، كانت “حقيقته” يُعبَّر عنها جمالياً. لوحات بوش ومسرحيات شكسبير هي “أرشيفات” إبستيميه الجنون في تلك الحقبة. وبالتالي، فإن التحول من فهم جمالي/مأساوي إلى فهم أخلاقي/طبي ليس مجرد تغيير في الموقف، بل هو تحول أساسي في الطريقة ذاتها التي يتم بها إنتاج المعرفة حول الجنون وتشريعها. ستنقل السلطة لاحقاً موقعها من قماش الفنان إلى ملف حالة الطبيب.
القسم الثالث: الحجز الكبير: مأسسة اللاعقل
يشكل هذا القسم جوهر الحجة التاريخية للكتاب، حيث يفصل اللحظة المحورية في القرن السابع عشر عندما تصدع العلاقة بين العقل والجنون بشكل لا رجعة فيه. يحلل هذا الجزء من كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو ظهور الحجز كظاهرة اجتماعية جماهيرية مدفوعة بضرورات اقتصادية وأخلاقية جديدة.
3.1 ولادة المستشفى العام (Hôpital Général)
يحدد التحليل تأسيس المستشفى العام في باريس عام 1656 كنقطة انطلاق رمزية لـ “الحجز الكبير”.23 يتم التأكيد على أن هذه المؤسسة لم تكن طبية، بل كانت بنية شبه قضائية وإدارية تتمتع بسلطة شبه سيادية، “ثقب أسود من الحصانة” يعمل خارج النظام القانوني العادي.23 كان الغرض منها منع “التسول والبطالة كمصدر لجميع الاضطرابات”.25 سرعان ما انتشر نموذج الحجز هذا في جميع أنحاء أوروبا، مع مؤسسات مثل Zuchthauser في ألمانيا وبيوت العمل (workhouses) في إنجلترا.2
3.2 الضرورات الاقتصادية والأخلاقية للعمل
من الحجج المركزية التي يناقشها هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو هي أن الحجز لم يكن مدفوعاً بالاهتمام الإنساني، بل بـ “حتمية العمل” الجديدة.14
- الدافع الاقتصادي: ظهر الحجز كاستجابة للأزمات الاقتصادية في القرن السابع عشر، حيث كان أداة للسيطرة على عدد متزايد من العاطلين عن العمل والمتسولين والمتشردين، وبالتالي منع الاضطرابات الاجتماعية وإعادة استيعاب البطالة لخفض تكاليف العمالة.14 كانت الشرطة مكلفة بجعل العمل “ممكناً وضرورياً لجميع الذين لا يستطيعون العيش بدونه”.25
- الدافع الأخلاقي: كانت هذه الحتمية الاقتصادية مدعومة بإدانة أخلاقية جديدة للبطالة. اكتسب العمل مكانة مقدسة وأخلاقية، واعتُبرت البطالة “الخطيئة الكبرى”.14 وهكذا كان الحجز مشروعاً أخلاقياً لغرس النظام والانضباط.14
3.3 سكان غير متجانسين: خلق “اللاعقل”
ضمت مؤسسات الحجز مزيجاً متنوعاً من “غير المرغوب فيهم” في المجتمع: الفقراء، العاطلون عن العمل، صغار المجرمين، المتحررون، المصابون بأمراض تناسلية، والمجانين.14 يجادل فوكو بأنه داخل هذا الفضاء، لم يكن المجانين موجودين كفئة منفصلة. لقد تم دمجهم في فئة جديدة أوسع هي “اللاعقل” — انحراف اجتماعي عام يُعرَّف بعلاقته السلبية بالنظام البرجوازي الجديد للعمل والأخلاق.27
يمثل الحجز الكبير لحظة حاسمة في تطور الدولة الإدارية الحديثة. فلأول مرة، تنشئ الدولة جهازاً مؤسسياً واسع النطاق لتصنيف وفصل وإدارة السكان الذين يُعتبرون إشكاليين. لا يتعلق الأمر بالرعاية الفردية، بل بضبط الجسد الاجتماعي ككل.14 إن فعل الحجز نفسه يساعد على تعريف “الطبيعي” من خلال فصله جسدياً عن “غير الطبيعي”.14 وهذا يوضح تطور الدولة لتقنيات حكم جديدة تعمل على السكان، وهو موضوع رئيسي في أعمال فوكو اللاحقة حول السياسة الحيوية (biopolitics).
3.4 تجربة الجنون كحيوانية
داخل جدران الحجز، تحولت التجربة المحددة للجنون. فبعد أن جُرد من ارتباطه بالمعرفة المأساوية، أصبح يُنظر إليه الآن على أنه شكل من أشكال “الحيوانية”.28 هذا التصور للمجنون كوحش، مجرد من العقل والإنسانية، برر المعاملة الوحشية التي تلقاها: التكبيل بالسلاسل، الحبس في أقفاص، والعرض العلني للمتفرجين الذين يدفعون المال في مؤسسات مثل “بدلام”.2 كان يُنظر إلى الانضباط والمعاملة الوحشية على أنهما الطريقتان الوحيدتان للسيطرة على هذه الحيوانية المطلقة.14
إن النتيجة الأعمق للحجز الكبير هي إسكات الجنون. لقد انتهى “حوار” عصر النهضة.2 فبعد أن تم حجزه وتصنيفه على أنه “لاعقل” أو “حيوانية”، حُرم الجنون من لغته الخاصة وقدرته على تحدي العقل. لم يعد العقل يتحدث
مع الجنون؛ بل أصبح يتحدث عنه، من موقع سلطة مطلقة. وهذا يؤسس لما يسميه فوكو “مونولوج العقل حول الجنون”، وهو مونولوج سيشكل أساس الطب النفسي الحديث. لم يولد المصح من رغبة في الاستماع إلى المجنون، بل من قرار التوقف عن الاستماع إليه تماماً.
القسم الرابع: المصح الحديث: من السلاسل المادية إلى الأقفاص الأخلاقية
يفكك هذا القسم الإصلاحات التي يُفترض أنها تقدمية وإنسانية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. يقدم هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو إعادة تفسير فوكو الاستفزازية لولادة المصح الحديث كمؤسسة لشكل أكثر دقة وشمولية وفعالية من السيطرة.
4.1 أسطورة التحرير: إعادة فحص بينيل وتوك
يتحدى التحليل الصورة البطولية التقليدية لفيليب بينيل وهو يفك قيود النزلاء في مستشفى بيستر، ووليام توك وهو يؤسس “ملجأ يورك” الإنساني.2 يجادل فوكو بأن هذا لم يكن تحريراً حقيقياً. فبينما أُزيلت السلاسل الحديدية المادية، استُبدلت على الفور بـ “سلاسل أخلاقية” غير مرئية كانت أكثر تقييداً.2 كان الإصلاح “سجناً أخلاقياً عملاقاً”.32
4.2 المصح كفضاء للحكم الأخلاقي
كان المصح الجديد، الذي يمثله “ملجأ” توك الكويكري، أداة للتوحيد الأخلاقي والإدانة الاجتماعية.30 كان يعمل من خلال تنظيم شعور المجنون بالذنب.30 تحولت تقنيات السيطرة من القوة الخارجية إلى القمع الداخلي:
- المراقبة والحكم: حلت المراقبة المستمرة والحكم محل الإكراه الجسدي. إن معرفة المريض بأنه مراقب تجبره على ضبط النفس.30 وهذا ينبئ بمفهوم “البانوبتيكون” (Panopticon).
- مرآة التعرف على الذات: أُجبر المرضى على رؤية أنفسهم، والاعتراف بجنونهم كفشل أخلاقي، والشعور بالندم باعتباره الطريق الوحيد للخلاص.2
- نموذج الأسرة: تم تنظيم المصح على غرار الأسرة البرجوازية، حيث يكون الطبيب هو شخصية السلطة الأبوية. تم التعامل مع المريض كطفل ووضعه في حالة من القصور الدائم.30
يمثل المصح الحديث تقدماً تكنولوجياً كبيراً في ممارسة السلطة. لم تعد السلطة موجهة فقط إلى الجسد (بالسلاسل والضرب)، بل إلى “الروح” (باستخدام مصطلح من كتاب المراقبة والمعاقبة). الهدف ليس سحق الجسد، بل إصلاح الروح، لإنتاج ذات وديعة، ذاتية التنظيم، استوعبت معايير الأخلاق البرجوازية. لقد حلت “المسؤولية المؤلمة” محل “الإرهاب الحر” 30، حيث أصبح المريض مسؤولاً عن علاجه. الآليات النفسية مثل الذنب والمراقبة واستبطان سلطة الطبيب هي جوهر هذه التقنية الجديدة للسلطة على الروح، والتي تم إتقانها في مختبر المصح.
4.3 الطبيب ككاهن وقاضٍ
يسلط هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو الضوء على التحول الحاسم في دور الشخصية الطبية. يكتسب الطبيب السلطة في المصح ليس كعالم (homo medicus)، بل كـ “رجل حكيم”، شخصية ذات سلطة أخلاقية وقضائية.11 لا تستمد سلطته من المعرفة الطبية الموضوعية، بل من موقعه كـ “أب وقاضٍ وقانون وأسرة”.30 إنه يمتلك سلطة تحديد من هو المجنون، والحكم على حالته الأخلاقية، ومنح “حريته” من خلال الندم.11
4.4 تطبيب الفشل الأخلاقي
فقط بعد أن تم وضع هذا الجهاز الأخلاقي والقضائي، تم تطبيب الجنون بالكامل. تم “اختراع” مفهوم “المرض العقلي” لتقديم تبرير علمي لهذا المشروع الأخلاقي.2 تم تجاهل تجارب المجانين باعتبارها مجرد “أعراض” لمرض وهمي، مما زاد من إبطال واقعهم.2 لقد قُطع الحوار بشكل نهائي، وحل محله النظرة السريرية للطبيب النفسي.
إن تحليل فوكو يعني أن المصح الحديث لم يقم ببساطة “بمعالجة” كيان موجود مسبقاً يسمى “المرض العقلي”. بل إنه أنتج الذات النفسية الحديثة. من خلال خلق فضاء يُجبر فيه الأفراد على مراقبة أنفسهم، والحكم على حالاتهم الداخلية، والاعتراف بإخفاقاتهم الأخلاقية لشخصية سلطوية، والسعي نحو “الحالة الطبيعية”، خلق المصح الظروف ذاتها لظهور علم النفس الحديث والتحليل النفسي. “السلاسل المستبطنة” 2 لمريض المصح هي بنية النفس الحديثة ذاتها، التي تراقب وتحكم على نفسها باستمرار. إن أريكة المحلل النفسي هي السليل المباشر لمصح بينيل.
القسم الخامس: إرث مثير للجدل: الحقيقة التاريخية والحقيقة الفلسفية
يقيّم هذا القسم الختامي الإرث العميق والمثير للجدل لـ تاريخ الجنون. يتناول هذا كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو بشكل مباشر الانتقادات الرئيسية الموجهة للعمل، بينما يجادل بأهميته الدائمة كـ “تاريخ للحاضر” أعاد تشكيل فهمنا للجنون والعقل والسلطة بشكل أساسي.
5.1 الجدل التاريخي: فوكو في قفص الاتهام
يتناول هذا القسم الفرعي بشكل منهجي النقد الواسع النطاق بأن الكتاب هو ببساطة “تاريخ سيئ”.21 تم توجيه انتقادات محددة لدقة فوكو التاريخية، لا سيما فيما يتعلق بأطروحاته المركزية حول “سفينة الحمقى” و “الحجز الكبير”. يجادل المؤرخون بأن فوكو بالغ في تقدير الأدلة، وحول الاستعارات الأدبية إلى حقائق تاريخية، ورسم صورة رومانسية للعصور الوسطى وعصر النهضة متجاهلاً الأدلة على المعاملة القاسية للمجانين قبل العصر الكلاسيكي.21 من ناحية أخرى، يدافع أنصار فوكو بأن الترجمة الإنجليزية المختصرة أدت إلى سوء فهم، وأن النقاد يسيئون تفسير حجته التي كانت تدور حول شكل ومنطق جديد للحجز، وليس مجرد وجوده.33
إن المعركة العلمية حول الدقة التاريخية لـ تاريخ الجنون توضح تماماً أطروحة فوكو نفسه. يمكن قراءة الدفاع الشغوف عن “الحقيقة التاريخية الموضوعية” من قبل مؤرخين مثل أندرو سكال وروي بورتر على أنه محاولة من قبل خطاب راسخ (التأريخ التقليدي) لضبط حدوده ورفض سردية مضادة “خطيرة” 35 تهدد سلطته. الجدل ليس فقط حول الماضي؛ إنه صراع سلطة معاصر حول من له الحق في إنتاج “الحقيقة”. إنه صراع بين نظامين مختلفين للحقيقة: أحدهما يقدر التحقق التجريبي والاستمرارية (بورتر، 36)، والآخر يقدر القوة الرمزية وتحليل الانقطاع (فوكو).
الجدول 1: ملخص الانتقادات التاريخية الرئيسية لـ تاريخ الجنون
ادعاء فوكو الأساسي | النقاد الرئيسيون وحجتهم المضادة | الدفاع المنهجي لفوكو |
“سفينة الحمقى” كانت ممارسة حقيقية لطرد المجانين في عصر النهضة. | إتش. سي. إريك ميدلفورت، أندرو سكال: هذه أسطورة. كانت “السفينة” استعارة أدبية وفنية. الأدلة على وجود ممارسة مادية واسعة النطاق شبه منعدمة.20 | صناعة الأسطورة/الحقيقة الرمزية: تعمل “السفينة” كرمز قوي لعلاقة العصر بالجنون — علاقة إقصاء وحدّية وحراك. حقيقتها الحرفية والواقعية ثانوية بالنسبة لحقيقتها البنيوية داخل الإبستيميه.2 |
“الحجز الكبير” كان حدثاً ضخماً على مستوى أوروبا بدأ في منتصف القرن السابع عشر، وخلط بين المجانين والفقراء والعاطلين. | سكال، روي بورتر، ميدلفورت: هذه “تحريف” للتاريخ. لم يكن الحجز على مستوى أوروبا (لم يحدث بهذه الطريقة في إنجلترا)، وكان أصغر حجماً، وكان يستهدف الفقراء في المقام الأول، وليس المجانين ككل.21 العصر الحقيقي للحجز الجماعي في المصحات كان القرن التاسع عشر. | تاريخ الحاضر/التحول البنيوي: يركز فوكو على ظهور منطق جديد للحجز قائم على حتمية أخلاقية/اقتصادية للعمل. إنه يتتبع ولادة منطق إداري، وليس مجرد إحصاء الأجساد. وهو يقر بالاختلافات الوطنية.33 |
عصر النهضة كان فترة تسامح نسبي حيث كان الجنون في “حوار” مع العقل. | ميدلفورت: هذه أسطورة “عصر ذهبي” رومانسية. هناك أدلة وافرة على المعاملة الوحشية، والتكبيل بالسلاسل، والخوف من المجانين كخطاة أو ممسوسين من الشياطين طوال العصور الوسطى وعصر النهضة.21 | الانقطاع الأركيولوجي: الحجة لا تدور حول اللطف مقابل القسوة، بل حول بنية مختلفة للتجربة. جنون عصر النهضة، حتى عندما كان يُخشى منه، كان مرئياً ويمتلك لغة ثقافية (مأساوية، مروعة). أما جنون العصر الكلاسيكي فقد أُخرس وجُعل غير مرئي داخل فئة “اللاعقل”.24 |
5.2 الجدل الفلسفي: تحدي دريدا
يجب أن يتضمن أي كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو إشارة إلى النقاش الشهير بين فوكو وجاك دريدا. يركز نقد دريدا على تحليل فوكو لديكارت، مجادلاً بأنه من المستحيل فلسفياً كتابة تاريخ “الجنون في حد ذاته” باستخدام لغة العقل. فأي محاولة من العقل للتحدث عن الجنون تؤدي حتماً إلى أسره وتحييده — “خدعة العقل”.9 وهذا يتحدى إمكانية مشروع فوكو ذاته بشروطه الخاصة.
5.3 التأثير الدائم: تاريخ للحاضر
على الرغم من الجدل حول الحقائق، فإن هذا الجزء الأخير من كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو يجادل بالأهمية الهائلة للكتاب. لقد كان له تأثير عميق على حركة مناهضة الطب النفسي، وعلم الاجتماع، ودراسات الإعاقة النقدية، والدراسات الثقافية.32 لقد وفر الأدوات الفكرية لرؤية الجنون ليس كحقيقة طبية موضوعية، بل كبناء ثقافي تشكله السلطة.11
تكمن القيمة النهائية للكتاب في وظيفته كـ “تاريخ للحاضر”.41 لم يكن هدف فوكو مجرد وصف الماضي بدقة، بل استخدام الماضي “لإزعاج مفاهيمنا الحالية”.41 من خلال الكشف عن عرضية فهمنا الخاص للجنون، يجعل من الممكن التفكير بشكل مختلف ومقاومة أشكال السلطة المضمنة في مؤسساتنا النفسية والاجتماعية الحالية. إن حقيقة الكتاب لا تكمن في تفاصيله التجريبية، بل في قدرته على إعادة تأطير المحادثة بأكملها حول ما يعنيه أن تكون “طبيعياً”. في النهاية،
تاريخ الجنون هو عمل “غير مكتمل”، ليس بمعنى أنه ناقص، بل بمعنى أن وظيفته الأساسية هي فتح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات نهائية. تكمن قيمته في العمل النقدي الذي يمكّنه. من خلال إظهار أن تعريفنا للجنون هو نتيجة “صدع” 24 و”قطيعة في الحوار” 24، يدعونا فوكو إلى التشكيك في الانقسامات التي نعيش بها اليوم: عاقل/مجنون، طبيعي/غير طبيعي، منتج/غير منتج. إرث الكتاب ليس مجموعة من الحقائق التاريخية، بل هو “نشاط مفرط ومتشائم” دائم وضروري 35 يجبرنا على أن نسأل باستمرار: ما هو الخطر الرئيسي اليوم؟
Works cited
- Foucault, Madness and Civilization – Emily A. Price – CUNY, , https://emilyprice.commons.gc.cuny.edu/foucault-madness-and-civilization/
- Madness and Civilization by Michel Foucault | Research Starters – EBSCO, , https://www.ebsco.com/research-starters/literature-and-writing/madness-and-civilization-michel-foucault
- www.ebsco.com, , https://www.ebsco.com/research-starters/literature-and-writing/madness-and-civilization-michel-foucault#:~:text=Foucault%20employs%20a%20unique%20historical,perceived%20and%20treated%2C%20emphasizing%20the
- Foucault’s history, archaeology, and genealogy | Museum of Education, , https://educationmuseum.wordpress.com/2012/06/01/history-archaeology-and-genealogy/
- Michel Foucault: Archaeology – Critical Legal Thinking, , https://criticallegalthinking.com/2017/11/16/michel-foucault-archaeology/
- Understanding Foucault: The Shift from Archaeology to Genealogy – Quest Journals, , https://www.questjournals.org/jrhss/papers/vol9-issue9/Ser-4/K09097275.pdf
- Archaeology (Chapter 3) – The Cambridge Foucault Lexicon, , https://www.cambridge.org/core/books/cambridge-foucault-lexicon/archaeology/7F623B94FDB0961226B45FDAB975904E
- Michel Foucault (Stanford Encyclopedia of Philosophy), , https://plato.stanford.edu/entries/foucault/
- (PDF) Foucault Studies, 18, 2014 (Double review – History of Madness) – ResearchGate, , https://www.researchgate.net/publication/267154939_Foucault_Studies_18_2014_Double_review_-_History_of_Madness
- Digging archaeology: Sources of Foucault’s historiography – York University, , http://www.yorku.ca/christo/papers/digarch3.htm
- In Madness and Civilization, Michel Foucault explores the history of madness in Western society. He reveals how shifting definitions of madness reflect deeper struggles for power and how exclusion and control are used to maintain social order and shape knowledge. : r/philosophy – Reddit, , https://www.reddit.com/r/philosophy/comments/1h3d8g3/in_madness_and_civilization_michel_foucault/
- Foucault’s Madness: Ships of Fools, Confinement, Criticisms & Method : r/philosophy, , https://www.reddit.com/r/philosophy/comments/ki7kph/foucaults_madness_ships_of_fools_confinement/
- Madness and Civilization Summary | SuperSummary, , https://www.supersummary.com/madness-and-civilization/summary/
- Madness and Civilization, Part 1 – Anna Swartz, , https://annaswartz.com/2016/05/madness-and-civilization-part-1/
- MADNESS AND CIVILIZATI ON – Alliance for Networking Visual Culture, , https://scalar.usc.edu/works/looking-at-laurie/media/Michel%20Foucault%20-%20Madness%20and%20Civilization.pdf
- Madness and Civilization Stultifera Navis Summary & Analysis | SparkNotes, , https://www.sparknotes.com/philosophy/madnessandciv/section1/
- “Border Liners”. The Ship of Fools Tradition in Sixteenth-Century England – OpenEdition Journals, , https://journals.openedition.org/trans/421
- The Ship of the Fools (Foucault and Painting) – Bonito Living, , https://drbeatrizacevedo.com/2014/08/03/the-ship-of-the-fools-foucault-and-painting/
- free slaves on the ship of fools | Madame Pickwick Art Blog, , http://www.madamepickwickartblog.com/2011/03/free-slaves-on-the-ship-of-fools/
- In “Madness and Civilization” Michel Foucault cites an alleged practice where individuals with cognitive disabilities were loaded on to ships and shuffled around various ports in Renaissance Europe before the medicalization of mental conditions. Is there any verifiable historical basis for this? : r/AskHistorians – Reddit, , https://www.reddit.com/r/AskHistorians/comments/qfslw8/in_madness_and_civilization_michel_foucault_cites/
- Social Democracy for the 21st Century: A Realist Alternative to the …, , http://socialdemocracy21stcentury.blogspot.com/2015/04/foucault-on-history-of-madness-critique.html
- Foucault: Madness & Civilization (History of Madness) – Then & Now, , https://www.thenandnow.co/2023/07/29/foucault-madness-civilization-history-of-madness/
- Madness and Civilization: The Great Confinement – Substack, , https://substack.com/home/post/p-148329272?utm_campaign=post&utm_medium=web
- Madness and Civilization – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Madness_and_Civilization
- The Great Confinement & The Birth of the Asylum – The Philosophy Hammer: Philosophy, Economics, Politics and Psychology Tested with a Hammer, , https://www.philosophyhammer.com/text.php?id=144
- Patient Work before World War I – Work and Occupation in French and English Mental Hospitals, c.1918-1939 – NCBI, , https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK588727/
- Madness and Civilization The Great Confinement Summary & Analysis – SparkNotes, , https://www.sparknotes.com/philosophy/madnessandciv/section2/
- Madness and Civilization The Insane Summary & Analysis – SparkNotes, , https://www.sparknotes.com/philosophy/madnessandciv/section3/
- Madness (Chapter 47) – The Cambridge Foucault Lexicon, , https://www.cambridge.org/core/product/identifier/9781139022309%23c11921-47-1/type/book_part
- Madness and Civilization The Birth of the Asylum Summary & Analysis – SparkNotes, , https://www.sparknotes.com/philosophy/madnessandciv/section9/
- Moral Treatment – Social Welfare History Project – Virginia Commonwealth University, , https://socialwelfare.library.vcu.edu/issues/moral-treatment-insane/
- Michel Foucault’s Madness and Civilization: A History of Insanity in the Age of Reason, , https://www.psychiatrictimes.com/view/michel-foucaults-madness-and-civilization-history-insanity-age-reason
- Extreme Prejudice: notes on Andrew’s Scull’s TLS review of Foucault’s History of Madness, , https://foucaultblog.wordpress.com/2007/05/20/extreme-prejudice/
- Book Review: Madness and Civilization : r/slatestarcodex – Reddit, , https://www.reddit.com/r/slatestarcodex/comments/7o63cd/book_review_madness_and_civilization/
- Foucault’s Madness: Ships of Fools, Confinement, Criticisms & Method – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=-UMcq5Rgm1k
- Porter-versus-Foucault-on-the-Birth-of-the-Clinic.pdf – ResearchGate, , https://www.researchgate.net/profile/Adrian-Wilson-7/publication/304604488_Porter_versus_Foucault_on_the_’Birth_of_the_Clinic’/links/5aa8f829aca2726f41b1fd4c/Porter-versus-Foucault-on-the-Birth-of-the-Clinic.pdf
- Andrew Scull’s Madness in Civilization: A Cultural History of Madness, Part I, , https://socialhistoryblog.com/andrew-sculls-madness-in-civilization-a-cultural-history-of-madness-part-i/
- Notes on Foucault’s History of Madness – Aliosha Pittaka Bielenberg, , https://alioshabielenberg.com/wp-content/uploads/2023/05/Foucault-Precis.pdf
- In Defense of Madness: The Problem of Disability – PMC – PubMed Central, , https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC6420721/
- Historical Epistemology as Disability Studies Methodology: From the Models Framework to Foucault’s Archaeology of Cure – CBS Open Journals, , https://rauli.cbs.dk/index.php/foucault-studies/article/download/4827/5252/18592
- What is a ”history of the present”? On Foucault’s genealogies and their critical preconditions, , https://www.corteidh.or.cr/tablas/r32759.pdf