تاريخ الهرمسية

يقدم هذا التقرير تحليلاً شاملاً للهرمسية، وهي تقليد فلسفي وديني متجذر في التعاليم المنسوبة إلى شخصية هرمس المثلث العظيم، التي تجمع بين الإله اليوناني هرمس والإله المصري تحوت. بالاعتماد حصرياً على المصادر المكتوبة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، يتتبع التقرير هذا التقليد من أصوله الهلنستية في الإسكندرية، حيث تولّدت من مزيج الفكر اليوناني والمصري، إلى تأثيره العميق في عصر النهضة واستمرارية حضوره في الباطنية الحديثة. يدرس التقرير ازدواجية النصوص الهرمسية (التقنية والفلسفية)، ويستكشف مبادئها الأساسية — مثل مبدأ “كما في الأعلى، كذلك في الأسفل” ومفهوم الألوهية البشرية — ويقارن نظرتها للعالم مع تقاليد أخرى مثل الغنوصية والأفلاطونية المحدثة. كما يوضح بالتفصيل الدور المحوري لشخصيات مثل مارسيلو فيتشينو والنقد التحويلي الذي قدمه إسحاق كازوبون، ويختتم باستكشاف إرث الهرمسية الروحي والثقافي في العصر الحديث.

الجزء الأول: الأصول التاريخية والملامح الأولية

1.1 نشأة الهرمسية في العصور القديمة المتأخرة: السياق الهلنستي والتوفيق الديني

ظهرت الهرمسية كتقليد فلسفي وروحاني في العصور القديمة المتأخرة، وتحديداً في المناخ الثقافي والديني الغني بمزيج الحضارات في مصر الهلنستية. كانت الإسكندرية، بفضل موقعها كملتقى للحضارات اليونانية والمصرية والشرق أوسطية، بيئة مثالية لنشوء هذا التقليد الذي كان يعتمد بشكل أساسي على التوفيق بين المعتقدات المختلفة. في قلب هذه الحركة التوفيقية، برزت شخصية هرمس المثلث العظيم (Hermes Trismegistus)، وهو شخصية أسطورية ناتجة عن دمج الإله اليوناني هرمس، الذي كان يُعتبَر إله التواصل التفسيري، مع الإله المصري تحوت، الذي كان يُبجّل كإله الحكمة والكتابة والسحر. هذا الدمج لم يكن عشوائياً، بل أنتج شخصية تتمحور هويتها حول “نقل الحكمة”. فباعتباره إلهاً للحكمة والتواصل، أصبح هرمس المثلث العظيم يرمز إلى عملية إيصال المعرفة الإلهية للبشر، مما يجعله “بطلاً حضارياً” ومُبتدئاً في أسرار العلم الإلهي.

تفسير لقب “المثلث العظيم” (Thrice-Greatest) الذي ظهر في القرن الثاني الميلادي يحمل عدة دلالات. يُقال إنه أُطلق عليه لأنه كان أعظم فيلسوف وكاهن وملك. تفسير آخر يربط اللقب بمعرفته الكاملة بالأجزاء الثلاثة لحكمة الكون: الكيمياء والتنجيم والعمل الإلهي (theurgy). كما أن هناك روايات في التقاليد الإسلامية، خاصة في الصوفية، ربطته بالنبي إدريس/أخنوخ، واعتبرته “ثلاثي الحكمة” بفضل أصله الثلاثي. تُظهر هذه التفسيرات المتعددة أن هرمس المثلث العظيم لم يكن شخصية تاريخية محددة، بل كان رمزاً أسطورياً للوصول إلى الحكمة، وهو ما يفسر وصفه بأنه “نبي بلا وجه” يفتقر إلى سمات ملموسة، مما سمح له بتمثيل حكمة عالمية تتجاوز الحدود الثقافية.

تأتي تسمية “هرمسي” (Hermetic) من الصفة اللاتينية hermeticus، التي ظهرت في العصور الوسطى لوصف الكتابات الباطنية المنسوبة إلى هرمس المثلث العظيم. أما مصطلح “مغلق بإحكام” (hermetically sealed) فيعود أصله إلى ممارسات الكيمياء القديمة، حيث كانت تُستخدم طريقة إغلاق محكمة للأوعية في المختبرات. وتطوّر هذا المصطلح لاحقاً ليصبح استعارة لحفظ المعرفة السرية وحمايتها من غير المستحقين، وهو ما يمثل أحد المواضيع المركزية في التقليد الهرمسي، حيث يرتبط العمل الخارجي لإغلاق الوعاء بالعمل الداخلي لحماية المعرفة المقدسة.

1.2 تصنيف النصوص الهرمسية (الهرميتيكا): الفلسفي مقابل التقني

تشكل مجموعة النصوص المعروفة باسم الهرميتيكا الأدب التأسيسي للتقليد الهرمسي، وقد كُتبت على مدى عدة قرون بين حوالي 200 قبل الميلاد و300 ميلادي. للتعمق في دراسة هذه النصوص، قام المؤرخ الفرنسي أندريه-جان فيستوجير بتمييز مجموعتين رئيسيتين منها.

تُعرف المجموعة الأولى باسم الهرمسية الشعبية (أو التقنية)، وتضم نصوصاً باطنية كُتبت في وقت مبكر يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد. تتعامل هذه النصوص مع مواضيع مثل التنجيم والكيمياء والسحر والطب الغامض. ويقوم مبدأها الأساسي على فكرة “التطابقات” أو “التوافق” بين الظواهر الكونية والأرضية، وهي فكرة مستمدة من الفلسفة الرواقية. ووفقاً لهذه الفكرة، كان يُعتقد أن لكل كوكب في السماء هرمية من الكائنات المرتبطة به، من الملائكة إلى المعادن، وأن العالم الأرضي يعكس العالم السماوي. وبالتالي، كان يُنظر إلى الباحث الذي يعرف هذه العلاقات على أنه قادر على التحكم في الطبيعة.

أما المجموعة الثانية، فتُسمى الهرمسية العالِمة (أو الفلسفية)، وتضم نصوصاً أكثر عمقاً، تم تطويرها في وقت لاحق، بدءاً من أواخر القرن الأول الميلادي. تشمل هذه المجموعة نصوصاً محورية مثل Corpus Hermeticum وAsclepius ووثائق أخرى اكتُشفت في نجع حمادي. تركز هذه النصوص بشكل أكبر على العلاقة بين الله والكون والبشر، وتقدم توجيهات أخلاقية ودينية تدعو إلى مسار من الحياة يؤدي إلى “البعث الروحي” ثم “الصعود الإلهي”. ويُعتقد أن مؤلفي هذه النصوص كانوا من اليونانيين الذين تأثروا بالثقافة المصرية أو العكس، وأنهم كانوا يعيشون في الإسكندرية. إن هذا التمييز، رغم أنه تصنيف أكاديمي حديث ، يكشف عن توتر أساسي داخل التقليد الهرمسي: هل الهدف هو “التحكم” في العالم الخارجي من خلال السحر والتطابقات، أم هو “تجاوز” هذا العالم تماماً من خلال التأمل الفلسفي والروحي؟ هذه الازدواجية هي ما يميز جوهر الفكر الهرمسي.

الجزء الثاني: المبادئ الفلسفية والكونية الأساسية

2.1 المصدر الإلهي للكون ومفهوم الوحدة

في صميم الفكر الهرمسي، توجد فكرة أن كل شيء ينبع من مصدر إلهي واحد يُعرف باسم “الواحد” أو “الموناد”. لا يُنظر إلى الكون على أنه منفصل عن الله، بل هو انبثاق للعقل الإلهي، أو “النوس” (Nous). يمثل هذا العقل الإلهي الذكاء المنظم الذي يشكل الكون، والبشر، بامتلاكهم القدرة على الوصول إلى “النوس”، يمكنهم إدراك الحقائق العليا. وتُعتبَر شخصية “بيماندريس” (Poimandres)، التي تُترجَم أحياناً إلى “راعِي الإنسان” أو “عقل الله”، رمزاً رئيسياً لهذه القوة الإلهية المتجلية. يؤدي هذا التصور عن المصدر الواحد إلى مبدأ الوحدة، حيث يكون كل شيء مترابطاً، وتُعتبَر الثنائية (مثل الخير/الشر أو الجسد/الروح) مجرد وهم في جوهرها. الله في هذا المفهوم هو الكل (to pan) وهو أيضاً خالق الكل، فجميع الأشياء المخلوقة كانت موجودة مسبقاً في الله.

2.2 مبدأ التماثل والتطابق (“كما في الأعلى، كذلك في الأسفل”)

يُعَدّ مبدأ التطابق، الذي يُعبَّر عنه بعبارة “كما في الأعلى، كذلك في الأسفل؛ كما في الداخل، كذلك في الخارج”، أحد أشهر وأهم المبادئ الهرمسية. يقوم هذا المبدأ على وجود تشابه هيكلي بين الكون الكبير (الكون) والكون الأصغر (الإنسان). ووفقاً لهذا المبدأ، يمكن استنتاج الحقائق حول طبيعة الكون من فهم الطبيعة البشرية، والعكس صحيح. هذا المبدأ يمثل مرآة وجودية تعكس أن العالم الخارجي للإنسان هو انعكاس لحالته الداخلية، وأن أفكاره ومشاعره تؤثر بشكل مباشر على واقعه المادي.

هذا المفهوم له تطبيقات عملية في مختلف العلوم الهرمسية، بما في ذلك الكيمياء التي تهدف إلى تنقية المادة والارتقاء بها إلى حالة الكمال، مما يعكس التحول الروحي الذي يسعى إليه الممارس لنفسه. إن فهم هذا المبدأ، الذي أثر في الفكر القديم وفكر عصر النهضة على حد سواء، يمثل طريقاً لاكتساب المعرفة الذاتية وفهم أعمق للوحدة الكونية.

2.3 الأنثروبولوجيا ومسار المعرفة (الغنوص): الطبيعة الإلهية للإنسان

تُعلّم النصوص الهرمسية أن الإنسان ليس مجرد كائن جسدي، بل هو انعكاس للجوهر الإلهي، و”إله صغير” يمتلك شرارة إلهية. فالهدف الأساسي للهرمسي هو تحرير الروح من سجن الجسد الفاني والعودة إلى حالتها الإلهية الخالدة. تُحقَّق المعرفة الحقيقية، أو “الغنوص” (gnosis)، من خلال “البعث” الصوفي أو التحول الداخلي الذي يحرر الفرد من الارتباطات المادية. تصعد الروح خلال سبعة أفلاك سماوية، تتخلى في كل مرحلة عن التأثيرات المادية والارتباطات الدنيوية، حتى تصل إلى حالة الوحدة مع “الواحد”.

من الجوانب الفريدة والقوية في هذا التقليد هي نظرة الهرمسية إلى تناسخ الأرواح (métempsychose) باعتباره فشلاً. فالتناسخ لا يُعتبر دورة طبيعية للتعلم، بل هو فخ أبدي للروح التي لم تنجح في العودة إلى أصلها الإلهي. هذا المفهوم يرفع من أهمية السعي الهرمسي، فليس الهدف هو تحسين الحياة في جسد قادم، بل تحقيق تحرر نهائي وحاسم في الحياة الحالية.

للإطلاع على تاريخ إبليس في الأديان

2.4 الهرمسية المتفائلة مقابل الهرمسية المتشائمة: نظرة مزدوجة للعالم

يتميز الفكر الهرمسي الفلسفي بانقسامه إلى اتجاهين متناقضين، كما أشار أندريه-جان فيستوجير.

  • الهرمسية المتفائلة: تعتبر العالم مكاناً جميلاً ومنظماً، خلقه إله خالق خيّر (الـ Demiurge). فالتأمل في جمال هذا العالم يؤدي بشكل طبيعي إلى معرفة خالقه وعبادته.
  • الهرمسية المتشائمة: تعتبر العالم سيئاً في جوهره وتهيمن عليه الفوضى. ووفقاً لهذا التصور، فإن الإله الأعلى هو إله “فوق كوني” (hypercosmic)، بعيد بشكل لا نهائي عن الخلق، ويجب على الروح أن تهرب من “سجن” المادة لتعود إلى الإله.

إن وجود هذين التوجهين المتناقضين ليس مجرد تناقض بسيط، بل هو سمة مميزة للتقليد الهرمسي. إنه يعكس التوتر الأساسي بين تقبّل الحضور الإلهي داخل العالم المادي (الرؤية المتفائلة) وتجاوز العالم المادي بالكامل للوصول إلى إله نقي وبعيد (الرؤية المتشائمة). هذه الازدواجية تعد دليلاً على البيئة الفكرية المعقدة في الإسكندرية، حيث استوعبت الهرمسية أفكاراً غنوصية.

السمة الهرمسية المتفائلة الهرمسية المتشائمة
نظرة إلى العالم العالم جيد وجميل ومنظم. العالم سيء وتحكمه الفوضى.
طبيعة الإله الإله هو الخالق (Demiurge) ومنظم الكون. الإله هو “إله فوق كوني” (hypercosmic)، بعيد عن الخلق.
العلاقة بالمادة التأمل في العالم يؤدي إلى معرفة الإله. المادة سجن للروح، ويجب على الروح أن تهرب منها.
النصوص الممثلة Corpus Hermeticum (II, V, etc.), l’Asclépius. Corpus Hermeticum (I, IV, etc.), Korè Kosmou.
المصادر

 

الجزء الثالث: التأثيرات التاريخية والعلاقات مع التقاليد الأخرى

3.1 إعادة الإحياء في عصر النهضة: اللاهوت القديم والفلسفة الإنسانية

بعد أن تلاشت الهرمسية إلى حد كبير في الغرب، عادت للظهور بشكل مؤثر في عصر النهضة. في عام 1460، أحضر ليوناردو دي بيستويا مخطوطة من Corpus Hermeticum إلى حاكم فلورنسا، كوزيمو دي ميديشي، الذي أمر بترجمتها على الفور من قبل مارسيلو فيتشينو. اعتقد فيتشينو أن هذه النصوص تحتوي على “حكمة قديمة ونقية” يمكن أن تُعيد البشرية إلى ذروة فهمها للإله.

كانت ترجمة فيتشينو وعمل جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا حاسمين في إحياء الهرمسية. سعى بيكو ديلا ميراندولا إلى التوفيق بين الهرمسية والمسيحية والكابالا اليهودية، مما جعل الفكر الهرمسي أكثر فهماً وقبولاً في أوروبا. اعتنق هؤلاء المفكرون فكرة prisca theologia (“اللاهوت القديم”)، التي تقول بأن حقيقة إلهية واحدة أُعطيت لأوائل البشر، وأن آثارها لا تزال موجودة في مختلف التقاليد الدينية والفلسفية.

إن التركيز الهرمسي على كرامة الإنسان وطبيعته الإلهية وقدرته على الصعود الروحي لاقى صدى قوياً لدى فلاسفة عصر النهضة الإنسانيين. كما ألهمت الهرمسية شخصيات مثل جون دي وباراسيلسوس، الذين رأوا في الكيمياء والتنجيم طرقاً لفهم الكون المادي والروحي، ولم يروا أي تعارض بين دراسة الطبيعة والتعمق في فهم الإلهي.

للإطلاع على المسيح الدجال بين الإسلام والمسيحية واليهودية

3.2 نقطة التحول: نقد إسحاق كازوبون

في عام 1614، أحدث عالم اللغة السويسري إسحاق كازوبون تحولاً جذرياً في فهم الهرمسية. فمن خلال تحليل لغوي دقيق للنصوص اليونانية، استنتج كازوبون أن هذه الكتابات لم تكن من تأليف كاهن مصري قديم عاش في زمن موسى، بل كُتبت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، مما جعلها أقل قدماً بكثير مما كان يُعتقد.

كان هذا النقد “مدمراً” للوضع الذي كانت عليه الهرمسية، وجرّدها من هالتها كحكمة “بدائية”. لكن هذا التحول لم يقضِ على الهرمسية، بل أعاد تشكيل هويتها. فبدلاً من أن تُعتبر تقليداً قديماً قادماً من بداية التاريخ، أصبح يُنظر إليها على أنها توليفة فكرية قوية ومعقدة نشأت في سياق تاريخي محدد. هذا الفهم الجديد مهد الطريق لدراسة الهرمسية كعنصر رئيسي في الباطنية الغربية، بدلاً من كونها مجرد “لاهوت شبه مسيحي”. ورغم ذلك، استمر بعض الممارسين، مثل السير توماس براون، في التمسك بالفلسفة الهرمسية رغم اكتشاف كازوبون.

3.3 العلاقة مع الغنوصية والتقاليد الأخرى

توجد علاقة وثيقة بين الهرمسية والغنوصية، إذ ازدهر كلاهما في مصر الهلنستية وشاركا في السعي وراء “الغنوص” كطريق لتحرير الروح من العالم المادي والوصول إلى معرفة شخصية بالإله. ورغم هذا التشابه في الهدف، توجد اختلافات جوهرية بينهما.

 

السمة الهرمسية الغنوصية
نظرة إلى الخالق متفائلة: الإله هو “الخير” و”الأب”. متشائمة: الخالق (الـ demiurge) يُنظر إليه غالباً على أنه شرير.
نظرة إلى الكون خلق إلهي جميل، و”أخ للإنسانية”. سجن شرير خلقه الـ demiurge.
نظرة إلى المادة/الجسد محايدة إلى إيجابية: التجسد تجربة ضرورية. سلبية: الجسد سجن للروح، والمادة شر.
الأساس الفلسفي يعتمد على الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية والرواقية). يميل إلى الأسس الدينية/المسيحية مع الاعتماد على الأساطير.
المصادر

 

يُظهر الجدول أعلاه أن الهرمسية، على عكس الغنوصية، لديها نظرة أكثر إيجابية للعالم والمادة، وتعتبر التجسد تجربة ضرورية للتقرب من الإله، بينما ترى الغنوصية العالم المادي سجناً للروح.

كما توجد علاقة بين الهرمسية والكابالا. لم يكن للتقاليد الأولى من كليهما أي تأثير على الآخر، لكن العلاقة التوفيقية بدأت في عصر النهضة. كان جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا شخصية محورية في الترويج لرؤية تجمع بين الأفلاطونية والهرمسية والكابالا. نتج عن هذا التمازج ظهور ما يعرف بـ “الكابالا الهرمسية”، وهي نظام مستقل نشأ من الكابالا المسيحية ودمج عناصر من الهرمسية والأفلاطونية المحدثة والديانات الوثنية. وعلى عكس الكابالا اليهودية، فإن الكابالا الهرمسية نظام توفيقي يختلف في مفهومه للإله وتطبيقاته لشجرة الحياة.

 

السمة الكابالا اليهودية الكابالا الهرمسية
الأصل تقليد تصوفي حي داخل اليهودية. تطور أوروبي للكابالا المسيحية، مستمد من الكابالا اليهودية.
السياق ديني وروحاني يهودي حصري. توفيقي، يدمج عناصر غير يهودية.
التركيز تقليد تصوفي كامل، يتجاوز شجرة الحياة. إطار عمل أو أداة ترتكز بشكل أساسي على شجرة الحياة والسفيروت.
التطابقات متجذرة في الشريعة اليهودية والنصوص المقدسة. تمزج المفاهيم اليهودية مع التنجيم، الكيمياء، التاروت، والآلهة الوثنية.
المصادر

 

بالإضافة إلى ذلك، توجد روابط تاريخية وفكرية بين الهرمسية والفكر الإسلامي، خاصة التصوف. فقد قام مؤرخون مسلمون في القرون الأولى للإسلام بربط شخصية هرمس المثلث العظيم بالنبي إدريس/أخنوخ، واعتبروه المعلم الأول للكيمياء، مما يكشف عن انتقال الأفكار الهرمسية عبر الثقافات.

الجزء الرابع: الهرمسية في العصر الحديث

4.1 التأثير على الحركات الباطنية الحديثة والجمعيات السرية

استمر تأثير الهرمسية في العصور اللاحقة، حيث لعبت دوراً محورياً في تأسيس وتطوير العديد من الحركات الباطنية الحديثة. من أبرز هذه الأمثلة هو “النظام الهرمسي للفجر الذهبي” (Hermetic Order of the Golden Dawn)، وهي جمعية سرية تأسست عام 1888 وكرست نفسها لدراسة وممارسة الهرمسية الغامضة. دمج هذا النظام مبادئ من الهرمسية والكابالا والكيمياء والتصوف المسيحي.

كما أثر الفكر الهرمسي على حركات أخرى مثل الصليب الوردي (Rosicrucianism)، التي تصف نفسها بأنها “نظام هرمسي” وتطبق المبدأ الهرمسي “كما في الأعلى، كذلك في الأسفل”. ووجد الفكر الهرمسي طريقه أيضاً إلى حركات حديثة مثل ثيليما، التي أسسها أليستر كراولي.

4.2 الهرمسية كمسار روحي معاصر

في ظل الثقافة المادية الحديثة، التي غالباً ما يشعر فيها الإنسان بالاغتراب، تقدم الهرمسية “طريقاً للعودة إلى الذات”. إنها تقدم مساراً روحياً يحترم السلطة الداخلية للفرد ويشجع على البدء الذاتي في الطريق الروحاني.

يُعَدّ هذا التقليد جذاباً في العصر الحديث لأنه يدمج بين العلم والروحانية، ويرى أن لا تناقض بين دراسة الكون والتأمل في الروح. من الممارسات الأساسية للهرمسيين المعاصرين القراءة التأملية للنصوص المقدسة مثل Corpus Hermeticum، والتأمل في الوحدة الإلهية، واستخدام المذكرات وأحلام اليقظة لاستكشاف العالم الرمزي للروح، ومراقبة حركة النجوم كمرآة لرحلة الروح. وتُعتبر الطقوس والصلوات أعمالاً للمواءمة مع الإلهي، وليست خرافات.

4.3 الهرمسية في الثقافة المعاصرة

استمر مصطلح “هرمسي” في اللغة الحديثة لوصف أي شيء “غامض” أو “شديد الإغلاق” أو “غير قابل للاختراق”، وهو مفهوم متأصل في تأكيد التقليد على الرمزية والسرية للمبتدئين. وقد تسربت الزخارف والرموز الهرمسية إلى الأدب والفن الحديث، فظهرت في أعمال كتاب مثل ويليام بليك ويورغ لويس بورخيس، وأمبرتو إيكو الذي استكشف فكرة الهرمسية كـ”دائرة لولبية لا نهائية” من التأويلات لا يوجد فيها سر نهائي.

الخاتمة

تقف الهرمسية شاهداً قوياً على الديناميكية الفكرية والروحية في الإسكندرية الهلنستية. وكما أوضح هذا التقرير، فإن تأثيرها ليس مجرد أثر من الماضي، بل هو خيط متصل ينسج نسيج الفكر الغربي. إن مبادئها الأساسية — مثل الطبيعة التوفيقية لمؤسسها، وازدواجية نصوصها الفلسفية والتقنية، والمبادئ العالمية للتطابق والوحدة، ونظرتها الفريدة للإنسان — سمحت لها بالتكيف والإلهام عبر العصور. من إحيائها في عصر النهضة كمصدر للـلاهوت القديم إلى تجلياتها الحديثة في الحركات الباطنية، يكمن جوهر جاذبية الهرمسية في عرضها لمسار مباشر وتحويلي نحو المعرفة الذاتية والوحدة الإلهية. ولهذا، تظل الهرمسية إطاراً عميقاً ودائماً لأولئك الذين يسعون إلى فهم الأسرار المترابطة للذات، والكون، والإله.

المراجع

  1. Hermeticism – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Hermeticism 2. Introduction to Hermetism: Exploring the Ancient Wisdom Tradition | by Moonlightavenue, https://moonlightavenue.medium.com/introduction-to-hermetism-exploring-the-ancient-wisdom-tradition-8e35fd7bcc10 3. Hermes Trismegistus – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Hermes_Trismegistus 4. Hermes Trismegistus biography – Last.fm, https://www.last.fm/music/Hermes+Trismegistus/+wiki 5. Hermétisme — Wikipédia, https://fr.wikipedia.org/wiki/Herm%C3%A9tisme 6. Neoplatonism, Hermeticism and the Quran – The Way of Hermes, https://wayofhermes.com/hermeticism/neoplatonism-hermeticism-and-the-quran/ 7. Hermetica – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Hermetica 8. Unlocking the Mysteries of the Corpus Hermeticum: A Guide to Ancient Wisdom and Spiritual Transformation – Academy of Life Planning, https://academyoflifeplanning.blog/2024/11/02/unlocking-the-mysteries-of-the-corpus-hermeticum-a-guide-to-ancient-wisdom-and-spiritual-transformation/ 9. Hermeticism for the Modern Seeker: An Ancient Path to Self …, https://medium.com/@ruslansharonov/hermeticism-for-the-modern-seeker-an-ancient-path-to-self-knowledge-f0d1ef822fa6 10. Hermeticism: The Mystical Quest – History of Esotericism – YouTube, https://www.youtube.com/watch?v=hMfG77klDGM 11. Microcosm–macrocosm analogy – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Microcosm%E2%80%93macrocosm_analogy 12. The Hermetic Principle of Correspondence: The Mirror of Oneness | by Saleem Rana | Publishous | Medium, https://medium.com/publishous/the-hermetic-principle-of-correspondence-86b2c6745e13 13. Hermeticism and gnosticism – Theopolis Institute, https://theopolisinstitute.com/leithart_post/hermeticism-and-gnosticism/ 14. 11 differences between Gnosticism and Hermeticism – The Way of …, https://wayofhermes.com/hermeticism/11-differences-between-gnosticism-and-hermeticism/ 15. Hermeticism, the Cabala, and the Search for Ancient Wisdom (Chapter 1) – Magic, Science, and Religion in Early Modern Europe, https://www.cambridge.org/core/books/magic-science-and-religion-in-early-modern-europe/hermeticism-the-cabala-and-the-search-for-ancient-wisdom/A34EAAD6820340AD3F27F1297127F506 16. Scaliger and the Corpus Hermeticum – Waivio, https://www.waivio.com/@harlotscurse/scaliger-and-the-corpus-hermeticum 17. Hermetic Qabalah – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Hermetic_Qabalah 18. Hermétisme et Renaissance – Eugenio Garin – Diffusion Rosicrucienne, https://www.drc.fr/fr/esoterisme-hermetisme-illuminisme/2611-hermetisme-et-renaissance-9791030401264.html 19. – YouTube, https://www.youtube.com/post/UgkxfGCNfw5PwkbsksuETzMK9303MEi8gEYl 20. en.wikipedia.org, https://en.wikipedia.org/wiki/Hermetic_Order_of_the_Golden_Dawn 21. Relationship between Kabalah and hermeticsm? : r/Hermeticism, https://www.reddit.com/r/Hermeticism/comments/1bpisaj/relationship_between_kabalah_and_hermeticsm/ 22. What is Hermetic Qabalah and how does it differ from Jewish Kabbalah? : r/Hermeticism – Reddit, https://www.reddit.com/r/Hermeticism/comments/zc15vg/what_is_hermetic_qabalah_and_how_does_it_differ/ 23. Rosicrucianism – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Rosicrucianism 24. Is the Rosicrucian Order a hermetic order? – Quora, https://www.quora.com/Is-the-Rosicrucian-Order-a-hermetic-order 25. L’hermétisme et la gnose : tradition et distorsion dans la transmission du savoir – OpenEdition Journals, https://journals.openedition.org/civilisations/739?lang=fr

Related Posts

كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو

إن الشروع في تقديم كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لفوكو يقتضي أولاً وقبل كل شيء الإقرار بالطبيعة الجذرية وغير التقليدية لمشروعه. هذا العمل ليس تاريخاً تقليدياً للطب النفسي، بل…

ريفيو لكتاب ظاهريات الروح لهيجل

يُعد كتاب “ظاهريات الروح” (Phänomenologie des Geistes)، الذي نشره جورج فيلهلم فريدريش هيجل عام 1807، بمثابة عمل محوري في تاريخ الفلسفة الحديثة. لم يكن هذا النص مجرد مؤلَّف مستقل، بل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You Missed

رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي

  • 18 views
رواية الإخوة كارمازوف لدوستويفسكي

رواية الخيميائي لباولو كويلو

  • 15 views
رواية الخيميائي لباولو كويلو

ريفيو رواية عالم صوفي جوستاين غاردر

  • 20 views
ريفيو رواية عالم صوفي جوستاين غاردر

ما هي أفضل أنواع الروايات التي تستحق القراءة؟

  • 27 views
ما هي أفضل أنواع الروايات التي تستحق القراءة؟

تحليل رواية 1984 لجورج أورويل: استشراف الرعب الشمولي في عالمنا المعاصر

  • 305 views
تحليل رواية 1984 لجورج أورويل: استشراف الرعب الشمولي في عالمنا المعاصر
أهم الكتب في التاريخ