قصة الملكين هاروت وماروت

يُعد موضوع قصة الملكين هاروت وماروت من أعقد وأدق المسائل التفسيرية في القرآن الكريم، لما ارتبط به من جدل واسع وخلاف عميق بين المفسرين الأوائل والمحققين المتأخرين. هذه القصة وردت في سياق آية واحدة عظيمة في سورة البقرة (الآية 102)، وقد جاءت هذه الآية لتصحيح المفاهيم العقائدية، وتبرئة ساحة الأنبياء، وتحديد الموقف الشرعي من السحر وممارسيه. يهدف هذا التقرير إلى تفكيك النص القرآني المتعلق بـ قصة الملكين هاروت وماروت، والتمييز بين الحقيقة القرآنية الصافية والمرويات الإسرائيلية الدخيلة، مع استخلاص العبر والآثار الفقهية والعقدية المستفادة.

المحور الأول: السياق القرآني والمنهجي لقصة الملكين هاروت وماروت

تبدأ آية البقرة 102 بالحديث عن سوء صنيع بني إسرائيل، الذين اتبعوا ما تتلوه الشياطين من كتب السحر والشعوذة على عهد النبي سليمان عليه السلام.1 هذا السياق الافتتاحي يوضح أن الهدف الأساسي من الآية هو نفي الكفر عن النبي سليمان، الذي اتهمته الشياطين بجمع كتب السحر، وبالتالي فإن أول ركن في فهم

قصة الملكين هاروت وماروت هو تبرئة الأنبياء.

الإطار الزمني والمكاني لنزول الآية (بابل)

تحدد الآية موقع نزول الملكين بأنه “بَابِلَ”، وهي مدينة بابل التاريخية الواقعة في أرض العراق.2 يعد اختيار بابل ذا دلالة عميقة، حيث كانت هذه المدينة مركزاً قديماً ومشهوراً لعلوم الفلك والسحر والغيبيات، والتي تشكلت منها لاحقاً بعض التقاليد اليهودية السرية كالكبالة.3 هذه البيئة الموبوءة بالسحر هي التي استدعت تدخلاً إلهياً لفضح مصدر السحر وتوضيح حقيقته، مما يربط بشكل وثيق بين الموقع الجغرافي والرسالة التطهيرية لـ

قصة الملكين هاروت وماروت.

جاءت الآية الكريمة لتؤكد أولاً على براءة النبي سليمان عليه السلام بقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.1 هذه التبرئة تشير إلى أن المشكلة الأصلية تكمن في اتباع ما كانت تتلوه الشياطين، والتي كانت تحاول إضفاء الشرعية على سحرها بنسبته إلى ملك سليمان، مما يمهد الطريق لبيان الوظيفة الحقيقية التي جاءت بها

قصة الملكين هاروت وماروت. لو لم تأت الآية لتفصل وتصحح، لظن الناس أن السحر كان جزءاً من ملك سليمان، لذا كان الفصل القرآني حاسماً في سياق قصة الملكين هاروت وماروت.

تشكل تبرئة سليمان المدخل الأساسي لفهم الرسالة العقائدية الكامنة في قصة الملكين هاروت وماروت. فالقرآن يشن حملة دفاعية وعقائدية بامتياز، تهدف إلى فضح الشياطين كأصل لكل ضرر وضلال، وتصحيح مفهوم النبوة والحكمة الإلهية في مقابل دجل السحر.4 وهذا يضع قصة الملكين هاروت وماروت في إطار وظيفي إلهي لخدمة العقيدة، وليس مجرد سرد قصصي.

المحور الثاني: التحليل اللغوي والتفسيري للآية الكريمة

يعتمد الفهم الصحيح لـ قصة الملكين هاروت وماروت بشكل كبير على التحليل الدقيق للجزء المتعلق بهما في الآية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}.

إعراب “ما” في {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} وتأثيره العقدي

اختلف المفسرون في دلالة لفظ “ما” في هذا الموضع، وهذا الخلاف يحدد طبيعة المنزل على الملكين وبالتالي جوهر قصة الملكين هاروت وماروت.

القول الأول: أن “ما” موصولة (بمعنى الذي): هذا هو القول الأكثر شيوعاً وظاهراً في السياق.5 وعليه، فإن المعنى هو: “يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم

الذي أنزل على الملكين ببابل”. يرى أصحاب هذا القول أن المنزل هو نوع من المعرفة أو السحر أُذن الله بإنزاله ابتلاءً واختباراً للناس.1 وهذا يعني أن قصة الملكين هاروت وماروت تدور حول علم نزل من السماء لكنه استخدم كفتنة.

القول الثاني: أن “ما” نافية: يميل إليه المحققون الذين يرون وجوب عصمة الملائكة من تعليم الكفر أو الضلال.6 وعليه، يكون المعنى: “وما أنزل السحر على الملكين”، أي أن السحرة زعموا أن السحر نزل على الملكين، فكذبهم الله تعالى. هذا القول يحافظ على عصمة الملائكة ويرفض أن يكون السحر أصلاً سماوياً، وهو ما يتوافق مع الأساس العقدي لـ قصة الملكين هاروت وماروت.

القول الثالث: أن “ما” معطوفة على النفي السابق: هذا القول يرى أن {وَمَا أُنزِلَ} معطوف على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.6 فيكون النفي شاملاً: لم يكفر سليمان، ولم يُنزل الله السحر على الملكين، بل ما نُسب إليهما هو افتراء من الشياطين، أو أن المنزل كان شريعة أو حقاً لكن الشياطين أدخلت فيه السحر. هذا التحليل يعزز السياق الدفاعي والعقيدي في قصة الملكين هاروت وماروت.

طبيعة التعليم والغرض من النزول: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}

النقطة التي يتفق عليها المحققون والمفسرون هي أن الملكين هاروت وماروت كانا مرسَلين من الله سبحانه وتعالى، ولم يكونا معاقبين أو ساقطين كما تزعم الإسرائيليات الضعيفة.7 هذا التوافق يؤسس لمفهوم أن قصة الملكين هاروت وماروت هي قصة ابتلاء.

مفهوم الفتنة (الابتلاء): كان الغرض من نزولهما هو الامتحان والاختبار، كما نصت الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}.1 هذا التحذير القاطع من الكفر يكشف عن أن المعرفة التي يمنحها الملكان كانت سلاحاً ذا حدين، فمن استخدمها في الشر فقد كفر، ومن استخدمها في التوقي والعلم فقد نجا. جوهر قصة الملكين هاروت وماروت هو التمييز بين الإيمان والكفر.

التمييز بين السحر والمعجزة: يرى جمهور المحققين أن الملكين كانا يعلمان السحر للناس ليس ليعملوا به، ولكن ليعرفوا حقيقته وكيف يتم التفريق بينه وبين المعجزة الإلهية أو الكرامة الربانية.8 فبمعرفة الشر يتم اجتنابه، كما قال الشاعر: “عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه / ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه”.6 هذا التفسير يحمي عصمة الملكين ويجعل مهمتهما تعليمية وتحذيرية، وهو الهدف الأسمى لـ قصة الملكين هاروت وماروت.

النتيجة العملية للتعليم: للأسف، أغلب الناس في بابل لم يلتزموا بهذا التحذير الإلهي، بل تعلموا ما يضرهم {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}.1 هذا التركيز على التفريق بين الزوجين يوضح أن السحر موجه بالأساس لتدمير النسيج الاجتماعي والأسرة، وهذا هو الإفساد الذي تحاربه قصة الملكين هاروت وماروت.

يلاحظ أن الابتلاء الإلهي ليس شراً في ذاته، بل هو وسيلة لاختبار مقاصد المكلفين. فالملكان قدما المعرفة مع التحذير.1 ولكن اختيار البشر استخدام هذه المعرفة في التفريق بين الزوجين يمثل طريقاً مباشراً للخسارة الأخروية، وهذا هو المحور التحذيري في قصة الملكين هاروت وماروت.

للإطلاع على السحر الأسود وأعراضه وعلاجه

سلطان السحر وضابط الإذن الإلهي

على الرغم من قوة السحر المذكورة في التفريق بين الناس، يضع النص القرآني حداً فاصلاً لسلطان هذا السحر: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ}.1

هذه الجزئية ذات أهمية عقدية قصوى، حيث تنفي استقلال السحر في التأثير وتؤكد أن الأسباب والنتائج كلها مقيدة بالإذن القدري لله تعالى.9 إن الإشارة إلى أن الضرر لا يقع إلا بإذن الله هي تأكيد لتوحيد الأفعال، وهو درس مركزي في قصة الملكين هاروت وماروت. لو كان السحر يضر بنفسه، لكان في ذلك إشراك في الألوهية أو القوة.

كما أن هناك لمسة بلاغية عميقة في ختام الآية، حيث يُنزل القرآن العالم منزلة الجاهل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.1 هذا يدل على أنهم يعلمون أن مصير الساحر هو الخسارة في الآخرة، لكنهم اختاروا الباطل. إن نفي العلم عنهم في الختام هو نفي لانتفاعهم بعلمهم، وهذا توبيخ عظيم، وهي عبرة كبرى مستخلصة من قصة الملكين هاروت وماروت.الجدول 1: أوجه الخلاف في تفسير الآية 102 (سورة البقرة) المتعلقة بقصة الملكين هاروت وماروت

 

المسألة التفسيرية	الرأي الأول (الموصولة)	الرأي الثاني (النافية / العطف على النفي)	الاستدلال العقدي
طبيعة “ما” في {وما أنزل}	موصولة (الذي أنزل) 5	نافية (لم يُنزل سحراً) 6	القول الثاني يتماشى مع عصمة الملائكة من تعليم الكفر، بينما يفسر الأول المنزل بأنه علم الفتنة.
طبيعة ما أُنزِل	السحر (ابتلاءً) 1	الشرع والحق، والسحر أُضيف إليه لاحقاً 6	الابتلاء بالسحر كان غرضه التمييز، وليس التشجيع على الممارسة.8
حالة هاروت وماروت	ملكان معصومان مرسَلان 7	ملكان معصومان مرسَلان 10	جميع المحققين يتفقون على عصمتهما، خلافاً للمرويات الضعيفة.7

المحور الثالث: المنهج العقدي الحاسم: عصمة الملائكة ونقد المرويات الإسرائيلية في قصة الملكين هاروت وماروت

يُعدّ هذا المحور الأكثر أهمية لترسيخ العقيدة الصحيحة بخصوص قصة الملكين هاروت وماروت، لأنه يتطلب فرزاً دقيقاً بين ما صح وما لم يصح من الأقوال المنسوبة إلى السلف.

الدليل القطعي على عصمة الملائكة

العقيدة الإسلامية تؤكد أن الملائكة مخلوقات نورانية لا يتطرق إليها الخطأ أو المعصية، كما نص القرآن الكريم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.6 هذا النص القطعي هو الأصل الذي يجب أن يُعرض عليه كل ما يُروى عن قصة الملكين هاروت وماروت.

أي رواية تتعارض مع هذا الأصل العقدي يجب رفضها جملة وتفصيلاً. ومن هنا، يتم نقد الإسرائيليات التي زعمت أن الملكين شربا الخمر، وقعا في الزنا، قتلا طفلاً، وسجدا للصنم (الزهرة).10 هذه الروايات هي محض خرافة مكذوبة، وتُعد طعناً في عصمة الملائكة ومناقضة صريحة للنص القرآني، وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون جزءاً من قصة الملكين هاروت وماروت الصحيحة.11

أكد المحققون من علماء الأمة، كالإمام القاضي عياض والحافظ ابن كثير والإمام الرازي، أن هذه التفاصيل لم يرد فيها أي شيء صحيح أو سقيم مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي قصص لا تؤخذ بالقياس ولا بالنقل الصحيح.12 إن الإصرار على رفض هذه المرويات هو حماية للمنهج العقدي من الخرافات.

تتبع مصدر الروايات الضعيفة (كعب الأحبار)

بالبحث في سند الروايات التي تضمنت تفاصيل سقوط الملكين، يتبين أن أغلبها يعود إلى كعب الأحبار، الذي نقلها عن كتب بني إسرائيل.13 حتى الروايات التي حاولت رفع هذه القصص إلى الصحابة، كعبد الله بن عمر أو علي بن أبي طالب، تبين أن أصلها يعود إلى كعب الأحبار.14

أفاد الحافظ ابن كثير أن رفع هذه الإسرائيليات إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كذب واختلاق ألصقه زنادقة أهل الكتاب بالإسلام زورا وبهتانا.12 وهذا يؤكد أن قصة الملكين هاروت وماروت تحولت إلى نموذج للصراع التفسيري، حيث حاولت الإسرائيليات الدخيلة ملء الفراغ القصصي بتفاصيل تتعارض مع العقيدة.

إن الهدف الخفي وراء إدخال تفاصيل ساقطة أخلاقياً عن ملائكة في قصة الملكين هاروت وماروت هو تشويه مصادر التشريع الإسلامي وتقويض ثقة المسلمين بالغيبيات المنقولة. لهذا السبب، شدد العلماء على ضرورة اتباع منهج الطبري والمحققين، وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن الكريم فقط عن قصة الملكين هاروت وماروت من غير إضافة أو نقصان.4الجدول 2: تقييم الروايات التفصيلية في قصة الملكين هاروت وماروت

 

الرواية التفصيلية	المصدر الرئيسي	الحكم النقدي	التأثير العقدي السلبي
سقوط الملكين بسبب الخمر والزنا والقتل	كعب الأحبار (الإسرائيليات) 12	ضعيفة جداً / موضوعة، ولا تصح مرفوعة.14	تخرق عصمة الملائكة وتخالف النصوص القرآنية الصريحة.10
تحول المرأة (ناهيد/الزهرة) إلى كوكب	الإسرائيليات (كعب الأحبار) 13	خرافة وغيبيات لا دليل عليها، يجب إنكارها.11	إدخال عناصر أسطورية فلكية لا تتناسب مع المنهج الإسلامي.

المحور الرابع: الآثار الفقهية والعقائدية للسحر في ضوء قصة الملكين هاروت وماروت

لم تقتصر قصة الملكين هاروت وماروت على السرد فحسب، بل حملت في طياتها أحكاماً فقهية وعقائدية صارمة تتعلق بممارسة السحر.

للإطلاع على أعراض السحر 

حكم تعلم السحر وممارسته

تشير الآية بوضوح إلى أن تعلم السحر بقصد العمل به هو طريق إلى الكفر، وذلك في سياق توبيخ بني إسرائيل على تقديمهم السحر على الإيمان.1 ويعتبر السحر كفراً إذا تضمن أفعالاً تخرج عن الملة، كعبادة الكواكب أو تقديم القرابين للشياطين، وهو ما كان منتشراً في بابل.10

التحذير الإلهي جاء صريحاً بأن من اشترى هذا السحر وترك ما عند الله، {مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ}.1 هذه الخسارة الأخروية هي الثمن الذي يدفعه من يختار الضلال، مما يثبت أن جوهر قصة الملكين هاروت وماروت هو التحذير من التبادل الخاسر بين الدنيا والآخرة.16

هنا يجب التفريق الدقيق بين النية من وراء التعلم. فتعلم السحر لمعرفته والتحذير منه وإبطاله، كما كان دور الملكين (فتنة ابتلاء) 8، يختلف كلياً عن تعلمه بقصد العمل به والضرر للغير، وهو الكفر المذموم.4 هذا التمييز في قصة الملكين هاروت وماروت يوفر القاعدة الفقهية لحكم السحر.

قوة السحر المقيدة بالإذن الإلهي

على الرغم من أن السحر يؤدي إلى التفريق بين الزوجين، وهو ضرر اجتماعي جسيم، إلا أن الآية تؤكد مجدداً أن هذا الضرر ليس مستقلاً، بل مقيداً بالإذن القدري: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ}.1 هذا التأكيد يعزز التوحيد وينفي الاعتقاد بأن السحر يملك تأثيراً ذاتياً مستقلاً عن مشيئة الخالق.9

إن التركيز القرآني على سحر التفريق {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ليس اختياراً عشوائياً، بل هو إشارة إلى أن الهدف الأول للشياطين والسحرة هو تدمير الخلية الأساسية للمجتمع، وهي الأسرة.1 إن تفاصيل قصة الملكين هاروت وماروت تقدم درساً مفاده أن الشر يوجه قوته التدميرية نحو أقدس الروابط الاجتماعية.

الفائدة العملية للآية في مكافحة السحر

تحمل آية قصة الملكين هاروت وماروت قيمة تطبيقية عالية. يذكر العلماء أن هذه الآية (البقرة 102) تستخدم في الرقية الشرعية لإبطال السحر.18 والسبب في فاعليتها الروحية هو أنها تفضح الشياطين وتنسب السحر إليهم، وتؤكد براءة الأنبياء من هذه الأفعال.

كما أن الآية ترد على ادعاءات السحرة في العصر الحديث الذين يزعمون أن طلاسمهم هي “خاتم سليمان” أو “سحر سليمان”.18 فـ قصة الملكين هاروت وماروت هي الحجة القاطعة التي تؤكد أن سليمان بريء، وأن كل سحر مصدره الكفر والشياطين.

للإطلاع على قصة قتل داود لجالوت 

المحور الخامس: الأبعاد المقارنة لقصة الملكين هاروت وماروت والتأثيرات الخارجية

من الضروري لتعميق فهم قصة الملكين هاروت وماروت دراسة الأصول غير الإسلامية التي قد تكون أثرت في التسمية أو الروايات المنسوبة إليهما.

الأصول الزرادشتية (الأفيستا)

يلاحظ وجود تشابه صوتي قوي بين اسمي هاروت وماروت وبين شخصيتين في الديانة الزرادشتية القديمة، وهما “هاورفتات” (Haurvatāt) و “أميريتات” (Amərətāt).19 هاتان الشخصيتان الزرادشتيتان هما جزء من “الآمشا سبنتا” (Amesha Spentas)، أي “الخالدون المقدسون”، وهما إلهان محسنان يرتبطان بالحياة والصحة والخلود.20 هذا التشابه يكشف عن أن الأسماء كانت معروفة في الثقافة البابلية الفارسية المحيطة. من المرجح أن القرآن استخدم هذه الأسماء المعروفة لتحديد كائنين مبعوثين إلى المنطقة، مع تصحيح دورهما العقائدي جذرياً. فبدلاً من أن يكونا آلهة أو شخصيات أسطورية، أصبحا ملكين مرسلين من الله، وهذا يعد تنقية إلهية للمفاهيم السائدة التي تحيط بـ قصة الملكين هاروت وماروت.

السحر البابلي والقبالة اليهودية

كانت بابل وبلاد فارس مركزاً لتطور علوم السحر، والتي تسربت لاحقاً إلى تراث بني إسرائيل السري (كالكبالة).3 هذه التقاليد اليهودية كانت تميل إلى التفاصيل الغيبية والأسرار المكتشفة.

هذا الميل اليهودي نحو التفاصيل الغيبية يفسر لماذا نجد في الروايات الإسرائيلية الضعيفة عن قصة الملكين هاروت وماروت تفاصيل عن كيفية صعود الملكين ونزولهما وطرق مخاطبة السماء (كقصة الزهرة التي تعلمت الكلام فصعدت).13 فالتداخل بين القصص اليهودية (القبالة) والسحر البابلي أدى إلى محاولة إقحام هذه الأساطير في التفسير الإسلامي لـ قصة الملكين هاروت وماروت.

لكن القرآن الكريم جاء ليضع حداً فاصلاً بين الإيمان والسحر. إن ذكر قصة الملكين هاروت وماروت في هذا السياق كان بمثابة إعلان سماوي أن السحر، بكل أشكاله البابلية أو اليهودية المتأثرة به، هو كفر محض، وأن المنزل على الملكين كان مجرد فتنة وتحذير لا تشجيع على الممارسة.4

للإطلاع على مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل (التاريخية والحديثة)

المحور السادس: الدروس والعبر النهائية المستخلصة من قصة الملكين هاروت وماروت

تحمل قصة الملكين هاروت وماروت دروساً عميقة تتجاوز مجرد السرد التاريخي، لتشمل جوانب عقدية ومنهجية في التعامل مع الفتن.

العبرة من الابتلاء واختيار الإنسان

إن الابتلاء بالمعرفة هو درس مركزي في قصة الملكين هاروت وماروت. فالإنسان مُخير، وقد اختار بنو إسرائيل (وغيرهم في بابل) تعلم ما يضرهم ولا ينفعهم، رغم علمهم بخطورة هذا الاختيار.1 هذا يعزز مفهوم حرية الاختيار وتحمل مسؤولية الكفر والضرر المترتب عليه.

الدرس المستخلص هو ضرورة اليقظة الروحية وطلب التثبيت من الله. فـ قصة الملكين هاروت وماروت تدعونا إلى تطهير القلوب من النفاق وطلب اليقين في الآخرة، لأن الذين اختاروا السحر إنما ظنوا أن الحياة الدنيا ومكاسبها هي كل شيء.16

المنهجية الصحيحة في تلقي القصص القرآنية

أهم نتيجة منهجية مستخلصة من دراسة قصة الملكين هاروت وماروت هي وجوب الاكتفاء بالقدر الذي أورده القرآن الكريم وتجنب الخوض في التفاصيل التي مصدرها الإسرائيليات. لقد أوضح الطبري وابن كثير ضرورة نبذ الروايات التي تتناقض مع عصمة الملائكة.4

إن قصة الملكين هاروت وماروت هي في جوهرها قصة عن فتنة إلهية وعن علم نزل للتمييز بين الحق والباطل. لقد نزل الملكان ليعلما الناس الفرق بين دجل الساحر ومعجزة النبي، ولكنهما حذرا تحذيراً قاطعاً من الانزلاق إلى الكفر باستخدام هذا العلم.8

الاستنتاجات العقائدية والمنهجية

تؤكد التحليلات التفصيلية لـ قصة الملكين هاروت وماروت على ثلاث استنتاجات عقائدية ومنهجية حاسمة:

1. عصمة الملائكة: الأدلة النقلية والعقلية تدحض بشكل قاطع جميع المرويات التي تزعم سقوط الملكين أو ارتكابهما للكبائر. هاروت وماروت ملكان معصومان، جاءا بأمر الله لتعليم الناس حدود السحر ليتوقوه، وكان نزولهما فتنة وابتلاء لا عقوبة.
2. براءة سليمان والسحر كفر: الآية برأت النبي سليمان عليه السلام من السحر، ووجهت الاتهام صراحة إلى الشياطين.1 وبالتالي، فإن تعلم السحر بقصد العمل به كفر يخرج من الملة، والقرآن أكد أن من يشتريه لا خلاق له في الآخرة.1
3. منهجية النقد القصصي: يجب على المنهج التفسيري الإسلامي أن يمارس نقداً صارماً للمرويات الإسرائيلية المتأثرة بالبيئات البابلية واليهودية (كالقبالة)، والعودة إلى جوهر النص القرآني الذي يقدم قصة الملكين هاروت وماروت كنموذج للتحذير من فتنة المعرفة المضللة. إن الضرر الذي يسببه السحر مقيد بمشيئة الله، وهو موجه بالأساس لتفكيك الأسرة، مما يجعله خطراً اجتماعياً وروحياً عظيماً.1 هذه هي الحقيقة المستخلصة من قصة الملكين هاروت وماروت.

المراجع:

1. وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ, , https://mosshaf.com/en/ajax/gete3rab/print?QuranSuraNo=2&QuranVerseNo=102&e3rabBook=all
2. تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ) – الباحث القرآني, , https://tafsir.app/ibn-katheer/2/101
3. وثائقي هاروت وماروت ولعـ ـنة بابل الاولى ، القصة الكاملة لظهور السـحر الاسـود في العهد القديم, , https://www.youtube.com/watch?v=far6JoAVapw
4. قصة الملكين هاروت وماروت وتعليم الناس السحر في بابل – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=VD3tUK0ig-0
5. نوع “ما” في قوله تعالى: (وما أُنزِل على الملكين ببابل هاروت وماروت) – عثمان الخميس – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=8vlWphbUd1k
6. باب 3- عصمة الملائكة و قصة هاروت و ماروت و فيه ذكر حقيقة السحر و أنواعه – مركز سيد الشهداء ع, , https://www.sayyid-shouhadaa-center.com/2012/07/12/%D8%A8%D8%A7%D8%A8-26-%D8%B9%D8%B5%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%A6%D9%83%D8%A9-%D9%88-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88-%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88-%D9%81%D9%8A%D9%87-%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AD%D8%B1-%D9%88-%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%B9%D9%87/
7. هاروت وماروت – ويكيبيديا, , https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA_%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA
8. 327- لماذا كان هاروت وماروت يُعلمان الناس السحر وهما مَلَكَان؟ – عثمان الخميس – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=SJY_bIMEVRI
9. من هم هاروت وماروت وهل هم ملائكةام شياطين/القصة الكاملة لظهور السحر الاسود_قصة ستصدمكم, , https://www.youtube.com/watch?v=V8-6m09yRQk
10. الملكان هاروت وماروت عليهما السلام ما عصيا ربَّهما – Shaykh Gilles Sadek, , https://shaykhgillessadek.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%A7/
11. 107 – 568 تفسير الآية ( 102 ) من سورة البقرة – الشيخ ابن عثيمين – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=qSj5CG0F0tY
12. كتاب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير – الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت, , https://shamela.ws/book/8671/213
13. تفسير الطبري — ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ) – الباحث القرآني, , https://tafsir.app/tabari/2/102
14. أرشيف ملتقى أهل الحديث – تحقيق حديث الملكين هاروت وماروت والمرأة الحسناء – المكتبة الشاملة, , https://al-maktaba.org/book/31615/26946
15. نقد كتاب التحقيق في قصة هاروت وماروت – Ahl Alquran, , https://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=21210
16. قصص القرآن دروس وعبر 002 والأخير من قصة هاروت و ماروت – للشيخ منعم – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=azn1oZvAZW8
17. التحرير والتنوير – سورة البقرة – قوله تعالى وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر – إسلام ويب, , https://www.islamweb.net/ar/library/content/61/142/%D9%82%D9%88%D9%84%D9%87-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%89-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D9%86%D8%B2%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84-%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D8%AF-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D9%8A%D9%82%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%A5%D9%86%D9%85%D8%A7-%D9%86%D8%AD%D9%86-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-%D9%81%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%83%D9%81%D8%B1
18. قصة هاروت و ماروت و ماذا حدث لهم في بابل؟ | نبيل العوضي – YouTube, , https://www.youtube.com/watch?v=QTEGztWM-6w
19. الرد على شبهة هاروت وماروت أسماء زرادشتية – منتديات حراس العقيدة, , https://www.hurras.org/vb/node/816673
20. AMƎŠA SPƎNTA – Encyclopaedia Iranica, , https://www.iranicaonline.org/articles/amesa-spenta-beneficent-divinity/
21. Amesha Spenta – Wikipedia, , https://en.wikipedia.org/wiki/Amesha_Spenta